الجمعة، 23 أغسطس 2024

من ديوان (سيرة التيه) – مخلص خليل



1

(انتحار)


اليوم انتحر رجل وحيد

لم أره إلا مرّة واحدة

لا يعرفه إلا القليل من عائلتنا المهاجرة

لم يجد الطريق إلى الشهرة

لم يقاسمه السكنَ أحد 

لم يُبح بسرّه أبداً

فجأة...ذات مساء

كتب ثلاث كلمات ودسّها في جيبه:

"أنا الذي اهتديت"

وركب الباص...

...

فجأة...

صعدَ سلالمَ عمارة لم يكتمل بناؤها

ومن الأعالي ألقى بنفسه

بالكلمات الثلاث

وبحجرته الرطبة

ولقمته الموجزة

إلى ذلك الشارع الثرثار

الذي في قلب المدينة

- كما يقال-

والذي يسمّونه: "شارع الثورة"...!


10-12-1982 (سيرة التيه- ص29)


2

(ابتداء) 


ما زالت هناك قلعةٌ أسفلَ الوقت

وما زال هناك وشاح

وثماني طلقات.

ما زال الجواد الأسيرُ يتمتمُ بإسمِ جَدَّتِهْ.

ما زال أولئك الملثَّمون بأصدافهم

القريبون من القيدوم

والغاربون يوم الجائزة

ما زالت تلك الوهاد السليطة

التي لا مُهر لها ولا حافر. 

ما زال السورُ كما سيّجوه

والحجارة كما هبطت.

ما زال معي مبضع الصخر

عندما يهمسون – هنا- بإسم الجبل. 

بيروت 29-4- 1982 (سيرة التيه- ص7)


3

(فطام)


العام الثالث يبدأ...

وأنتِ تكتبينَ اليَّ كل أسبوع

العام الخامس يمضي

وأنتِ تصلّينَ بلا جدوى

العام الحادي عشر على فراري الأول

وأنتِ تنتظرين عودتي بتابوت

وها هي رسالتي الأخيرة:

صار طفلك كهلاً ...

ولم يركِ...

اكتبي لي...

لأن رسائلك السابقة لم تصل!

دمشق 31-3- 1983 (سيرة التيه- ص9)


4

(هجرة)


جاءوا بكِ من الطوراق

ذات ليلة ممطرة

وهم على صهواتهم يترنحون

جاءوا...

وأنتِ مرتبكة في الهودج

في السادسة عشرة

خفيضة الصوت 

وسليطة السمرة

جاءوا بك إلى بلادنا

لتتزوجي أبي...

فأنجبتِ عشر ضحايا

بعضهم فرَّ من ثدييكِ

وقُتل الباقون

في الحرب الأخيرة.


أيتها المسبية منذ أربعين عاماً

يا أمّ البنين

يا فاطمة الصغيرة

عودي إلى جزائركِ

فهناك- كما علمت- لم يقتلوا بعد 

بهذه الجرأة.

2-9- 1988 (سيرة التيه ص15-16)


5

(جنود)


فقد عينَهُ الأولى في الحرب

ولسوف يُعمى بعد غد

فقدَ نِصفه

وها هو يشتعل كلفافة ساحر.


إنه يؤبَّن الذين قُتلوا

ولم يغب معهم

والذين وقفوا

وظل مائلاً

والذين أسروا

وعادَ دونهم، كالعذراء، تندبُ أسبابها.

11-8-1988 (سيرة التيه – 21)


6

(محارب)


قالَ المحارب

وكان قد سمع عن أور لتوّه:

الوطن مبتدأ، وها هم يجرّونه...!

15-3- 1981 (سيرة التيه- ص25)


7

(شاهدة بحرية)


نعش آخر يؤوب إلى البحر

شاهدة أخرى، وكأنها تقول:

ما زلتَ صبياً أيها البحر

ما زلت قصيراً أيها المتوسط.

***

شاهدة بيضاء تغطسُ

لتحفرَ على أخاديد الموج

اسم أبي...

وقامة جندي في أوائل القرن

فرّ من الحرب

ثم اسم عشيقته في المؤخرة

واسم الزورق الذي تدرّب على الصيد لديه

بعد أن قال للقرى:

"إلى الجحيم... إلى الجحيم".

***

شاهدة أخرى تؤوب إلى المسفن

وكأن أبي يقول:

هو أول الرمّل،

أول السلّم

أول الأمراس

أول الشقاء.

***

شاهدة تتلاشى في ضباب الساحل

وكأنه يقول:

لا نخيل هناك ولا ماء

هذه هي الوطيئة فأجهشوا

وكأننا نأخذ حقائبنا ونتبدّد

لا دليل لنا، ولا نخلة.

***

شاهدة أخرى...

وأنا أندبُ أصدافكِ

أيتها الريحُ العائدة من الجنوب!

لم يعد لنا بحر هناك

يلقي برواسيه الكثّة على الشاطئ

ولا إله ذو شاربين

يزجر بهما الأمواج الخبلة والكواسج.

***

شاهدة أخرى...

وكأن أبي يقول:

لا نخيل هنا...

لا نخيل هنالك

ولا سماء. 

3-7-1984 (سيرة التيه- ص37-39)


*من ديوان (سيرة التيه) – مخلص خليل – الطبعة الأولى 1993 – صحارى للصحافة والنشر (هنغاريا) - الاشراف الفني: انتشال هادي- خطوط الغلاف: صادق الصائغ- التخطيط الداخلي: سلام الجابري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق