الأحد، 15 يناير 2023

حاتم علي و«ليل الاستبداد الطويل»!

 





فيصل علوش 

مضت حياة الفنان المبدع حاتم علي قصيرة، لكنها كانت غنية وثرية. بدأها باكرا بكتابة القصة القصيرة، وأصدر مجموعتين: «ما حدث وما لم يحدث»، و«موت مدرّس التاريخ العجوز». ثم ذهب إلى فضاءات الفن المتعددة، ممثّلاً وكاتب سيناريو ومخرجاً درامياً ومسرحياً وسينمائياً... فأثرى أرشيف الدراما السورية والعربية بأعمال مميزة، حضّتنا على حياة أكثر نبلا وشجاعة ووعيا وجمالا. 

وأهم ما يميز أعماله هو انحيازها للجمال والحرية والضعفاء، ومقاومتها للإكراه والاغتصاب ومنطق الغلبة والاستبداد، (التغريبة الفلسطينية)، مع ابتعادها عن الوعظ والتلقين «الإيديولوجي». 

وكان الراحل عندما يُخرج، شديد الاعتناء بالتفاصيل الدقيقة؛ اختيار الممثل الجيد والمناسب لأداء الدور، الاهتمام بالديكور المتقن المدروس، وكذلك بالأزياء المعبّرة بدقة، بالحوار الذكي العميق، وبالموسيقى التصويرية، كلّ ذلك ليأتي العمل متماسكا وقابلا للتصديق، وحافلا بالمعرفة والجمال.

وفي فيلمه «الليل الطويل» يتصدّى لواقع الاستبداد في سوريا متطرقاً إلى قضية الاعتقال السياسي، وذلك من خلال «عيّنة» تتألف من أربعة سجناء سياسيين، يُطلق سراح ثلاثة منهم بعد أكثر من عشرين سنة أمضوها خلف القضبان. وعبر هذه «العينة» يسلّط الضوء على واقع حال البلد، وما خلّفته سنوات السجن الطويل من مآسٍ انسانية، وخصوصاً على عوائل المعتقلين.

تدور أحداث الفيلم كلها في ليلة واحدة، تبدأ بقراءة أسماء المعتقلين الثلاثة الذين سيتم الإفراج عنهم. ليلة انتظار طويلة تمتد وتمتد، ليتناول فيها مختلف التفاصيل المتعلقة بكيفية التعامل مع المعتقل المُخلى سبيله، بما فيها ضغط الأجهزة الأمنية من أجل التوقيع على «تعهد» بعدم العمل في السياسة!. 

ولا يطلع صُبح الليلة إلا بموت أبو نضال، (الذي جسّد دوره الفنان الراحل خالد تاجا)، بعد وصوله إلى قريته وجلوسه وتمدّده قرب جذع شجرة معمّرة في باحة بيته، في نهاية رمزية محزنة ومؤثرة للمعتقل السياسي، الذي لا يتم الإفراج عنه إلا ليموت، أو ليصبح الإفراج عنه بمثابة «إعلان» لموته، على نحو يعكس الكيفية التي يسلب فيها نظام الاستبداد حياة المعارض السياسي، تمويته الجسدي بعد «اغتياله» المعنوي والأخلاقي والسياسي.

ومن خلال رصد الفيلم لردود فعل عائلة أبو نضال على خبر إخلاء سبيله، نتعرف على حياة وسلوكيات أبنائه وبناته بعد تغييبه، (نضال وكفاح وعروبة.. مع ما لهذه الأسماء من دلالات واضحة)، وكيف باعدت بينهم التوجهات والخيارات المسلكية والسياسية. لكنهم يندفعون إلى إعادة ترتيب غرفته، ليعيدوها إلى الحال الذي كانت عليه قبل سجنه، ظنّاً منهم أنّ بالإمكان العودة بالزمن إلى تلك اللحظة، في حين أن تفكير الوالد المفرج عنه كان في شيء ومكان آخرين، مختلفين كلياً!.

ونرى كفاح (الابن الأصغر لأبي نضال)، الذي أدّاه الممثل باسل خياط، متمسكًا بأفكار ومبادئ والده في وجه زواج أخته (أمل عرفة)، من ابن مسؤول كبير في السلطة، وصديق سابق لوالدها. في حين بارك الأخ الأكبر نضال (زهير عبد الكريم)، هذا الزواج كزواج مصلحة، استفاد منه في عمله كمحامٍ. وهو ما كان بالنسبة لكفاح، بمثابة «شراكة» في خيانة المبادئ التي سجن والدهم من أجلها.

وقد يقع الناقد على العديد من الثغرات والهنات في تفاصيل وحيثيات العمل، مع ضرورة التنويه إلى طبيعة المرحلة والظروف والشروط التي حكمت صناعته، وندرة هذا النوع من الأفلام التي تتصدى لواقع القمع، وما بدا فيه وكأنه طرحٌ لـ«عبثية» المعارضة والاعتقال ومقاومة الاستبداد. وقد يرى البعض أنه كان ضعيفاً من الناحية الفنية، وأشبه بحلقة في مسلسل  تلفزيوني، بفعل تأثر مخرجه وكاتبه بصناعة الدراما التلفزيونية أكثر من صناعة السينما. 

وفي المقابل، قد يرى آخرون أنه في ظل الظروف السياسية القاهرة والمعروفة في سوريا، كان يصعب على مخرجه أو سواه، أن يخبرنا بـ«كل اللي صار»، ولكن حسبه أنه حاول، وتمكن أن يثبت بفنّه الجيد جدارته. وخصوصاً أنه لم يمتدح الاستبداد والقمع، أو يمالئهما، ولم يخضع لسطوة المال والسياسة والمناصب. فضلاً عن أنّ قول جزء من الذي صار يُعدّ «إنجازاً»، في ظل هامش الحرية المحدود والضيق، والفساد المطبق الطارد للمواهب والأعمال الجيدة!. 

........................................

«الليل الطويل» انتاج عام 2009، تأليف هيثم حقي، وإخراج حاتم علي، حصل على جوائز عديدة. وشارك في بطولته كوكبة من الفنانين السوريين المعروفين؛ مثل خالد تاجا، سليم صبري، نجاح سفكوني، باسل خياط، أمل عرفة، حاتم علي، ضحى الدبس، زهير عبدالكريم، رفيق سبيعي، وآخرون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق