الجمعة، 26 يناير 2018

جوسلين صعب: افلام تتلمس الهموم ومكامن الجروح‏ في الجسد العربي


محمد عبيدو:





ولدت /جوسلين صعب/ في 30 أبريل 1948 في بيروت وهي اسم له مكانته في إطار السينما العربية بما قدمته من افلام تسجيلية وروائية تتلمس الهموم ومكامن الجروح‏ في الجسد العربي .‏ وهي الآتية من عمل طويل في مجال الصحافة... تحركت بكاميرتها الى الموقع والأحداث الهامة على صعيد الوطن العربي..فهي تريد أن تعايش عصرها وتقدم أفلاماً تكون شهادات عن هذا العصر...وتاريخها السينمائي طويل وثري ومليء بالتجارب والمغامرات ..في عديد من بلاد العالم.‏ 
فبدءاً من عام /1963/ساهمت في المجلة التلفزيونية للتلفزيون الفرنسي-القناة الخامسة-بأفلام تسجيلية عن الشرق الأوسط تدل عليها عناوينها:(بورتريه القذافي) ،(حرب تشرين)،(عن الجانب المصري)،(الجولان السوري) عن الاحتلال الصهيوني للجولان ،وآخر عن الأكراد في شمال العراق،وثلاثة أفلام عن ا لثورة الفلسطينية هي:«الفلسطينيون يتابعون»،و«المنتحرون» و«المرأة الفلسطينية» .‏ 
فيلمها التسجيلي الطويل«لبنان في دوامة» 1976 يعتبر أول فيلم عن الحرب في لبنان ...حيث يبدأ بحديث عن لبنان الماضي القريب...لبنان السياحة والكومبرادور...إذ دخلت كاميرا الفيلم صالونات البرجوازية اللبنانية في لقطاتها الأولى لتصوّر لنا نساء ًورجالاً بملابسهم الفاخرة وأحاديثهم الاستهلاكية..وبموازاة ذلك تُصور لنا الكاميرا نقيض الصالونات البورجوازية أي الشارع اللبناني حيث بقع الدماء على الأرض والبيوت المهدمة والوجوه الفقيرة والمريضة..ورغم الموقف الأساسي الذي يتركب منه موضوع الفيلم ،وهو موقف ميلودرامي في صميمه إلا أن الفيلم استطاع بقوة بنائه أن يخفف كثيراً من غلواء الميلودراما وفجاجتها...اعتمد الفيلم على أسلوب التحقيق التلفزيوني «الريبورتاج» لكي يدفع المشاهد الى خضم الأحداث مباشرةً ولكي يبقي على أكبر قدر من وعيه متفاعلاً مع ما يراه وما يسمعه .‏ 
في هذا الاطار تلتقي/جوسلين/زعماء كل الأطراف في لبنان آنذاك من /بيير الجميل/الى/هنري صفير/ مروراً /بكمال جنبلاط/والامام/ الصدر/غسان تويني/و/فواز طرابلسي/..وغيرهم من مسلمين ومسيحيين وفلسطينيين..يتحدثون ويعرب كل منهم عن وجهة نظره ...ولكن وجهة نظر المخرجة لا تغيب طوال الوقت من خلال عين الكاميرا..فمثلاً /الجميّل/يتحدث في قاعة فسيحة من خلف منضدة طويلة تصطف الى جانبها كراسٍ فارغة، وخلفه شعار«الكتائب» تقطع المخرجة أثناء حديثه عن شعار الكتائب الفلاشة الاسبانية في عام 1936 لتربط بين فاشية الأمس واليوم.جوسلين صعب/ في فيلمها «لبنان في دوامة» عمدت الى نوع من التحليل الموضوعي بما يتناسب وتقبل الرأي العام الأوروبي ووضع القضية أمامه..بعد عامين تعود /جوسلين/ أكثر حزناً الى وطنها لتصور حالة الهدنة والحرب المستمرة بالسر وبالعلن...في «رسالة من بيروت» تتجنب /جوسلين/التحليل لتسلم نفسها الى أغاني الحزن والغضب والحنين الى بيروت التي لم تعد كما كانت..‏ 
الفيلم جميل ومتقن يتسم بالشاعرية والهدوء،حقق انتقالاً من أسلوب /جوسلين /الصحفي الى الصياغة السينمائية،وكشف عن مخرجة تجيد التعبير عن أفكارها بهدوء وضمير وذكاء،وجرأة في استخدام المونتاج، وقدرة على تطويع الكاميرا لتمتلك صورتها السينمائية.‏ 
وتتوالى أفلامها التسجيلية عن الحرب اللبنانية «صليبيون للشرق الأوسط»و«أطفال الحرب»و«جنوب لبنان قصة ضيعة محاصرة» .‏ 
وتنتقل بعدها لتصور فيلماً عن الصحرا ء الغربية عنوانه «الصحراء ما بتباع» ...في عام 1984 أخرجت /جوسلين /فيلمها الروائي الطويل«حياة معلقة» وتركز /جوسلين /في فيلمها على خطين رئيسيين هما :حكاية رجل ومراهقة من ناحية،وحكاية مدينة من ناحية ثانية،مع توضيح الدور الذي تلعبه حكاية المدينة في اللقاء بين بطلي القصة ،فلولا الظروف التي تعيشها المدينة لكان من المستحيل التقاء رجل مثل /كريم/«مثل دوره الممثل المسرحي الفرنسي جاك فيبر» بفتاة مثل/سمر/«لبنانية عمرها 14 سنة، اسمها هالة بسام».‏ 
كانت/جوسلين صعب/قد تعرفت سابقاً في الأيام الأولى للحرب الى مراهقة قادمة من وسط أحد الأحياء المدمرة في بيروت،لتسكن في شقة مجاورة لتلك التي كانت تعيش فيها هي شخصياً...وبقيت الفتاة ثلاث سنوات في هذه الشقة... مما سمح /لجوسلين/بمراقبتها واكتشاف تصرفات انسانة قادمة من عالم معين، عندما تجد نفسها فجأةً في وسط جديد ومختلف تماماً عما عرفته من قبل...انطلاقاً من هذه النقطة نشأ الفيلم في مخيلة /جوسلين صعب/،فتنقلت أفكارها المتتالية فوق الورق وروت حكاية اللقاء بين /سمر،/المراهقة التي كبرت وسط دمار بيروت ،و/كريم/الرسام ذي القامة المزدوجة،العربية والفرنسية والذي يعيش في بيت فخم وردي اللون، ويبحث من خلال فنه عن ملجأ لمشاعره وأفكاره بعد أن هدمت الحرب أعزّ ما كان يمتلكه «مدينته المحبوبة » إن لقاء /كريم/بـ/سمر/سيغير الكثير في حياة كل واحد منهما وسيعيد... طعم الحياة نوعاً ما الى كريم بينما ستكتشف سمر معنى الحب وسط الدمار وأصوات القنابل...لا يمكن اعتبار «حياة معلقة» كفيلم عن الحرب،حاله حال الاعمال الأخرى،المصوّرة في بيروت والتي تتناول حياة الاشخاص في ظلّ الحرب، فقد اختارت/جوسلين صعب/زاوية العلاقة بين البطلين وتركت للحرب مهمة الحضور في الفيلم بمثابة خلفية أو مجرد ديكور للأحداث،بينما المهمّ هو الحب الذي ُيخرج الشخصين من ظروفهما الأصلية .‏ 
في عام1994 قدمت /جوسلين صعب/فيلمها « كان ياما كان بيروت» وفيه: تقنع فتاتان رجلاً عجوزاً بأن يريهما الأرشيف السينمائي... وعندئذ تبدأ بيروت بالحياة من جديد من خلال عرض مقتطفات طويلة من الأفلام، حيث تتسليان بمشاهدة /لوي ماريانو/و/شارل ديغول/و/دافيد نيفين/أو/برجيت باردو/أو/لورانس العرب/.‏ 
تؤكد المخرجة بأن الفيلم كان استعراضاً للأساطير الكبيرة التي أبدعت صورة المدينة..مدينة بيضاء ذات جمال قاتم ،وذلك من خلال مقتطعات من الأفلام التي عرفت كيفية اخراج أساطير وحقائق بيروت الشرق،المفضلة لدى الغرب،مدينة كل الأساطير التي صنعت غناها والتي في النهاية ستكون سبب ضياعها..فيلم وثائقي خيالي يتمفصل على ايقاع الأفلام الأولى عن الشرق... كما أفلام الدراما المصرية...انها خليط مليء بسحر الماضي.‏ 
وبين عامي 1997-1998 ذهبت /جوسلين صعب/الى فيتنام لتصور سيدة /سايغون/ الذي فاز بجائزة أحسن فيلم تسجيلي من السمعية البصرية الفرنسية.وفيه تصور قصة حب ّبين رجل وامرأة عجوزين هو في 70 من عمره وهي في 60 من عمرها...حاولت المخرجة أن تدخل في تاريخهما وتعرض تأثير سنوات الاحتلال والحرب عليهما.
‏وقد أثار فيلمها «دنيا» ضجة كبيرة مع الرقابة على المصنفات الفنية في مصر بسبب جرأة تناوله كثيراً من قضايا المرأة والمجتمع العربي الحساسة مثل «الختان»،وحرية المرأة،القمع الاجتماعي،وغيرها من القضايا الشائكة عبر شخصية دنيا (حنان ترك) ...وهي فتاة من جذور صعيدية تدرس في كلية الآداب،لتلتقي بأستاذها بالجامعة«محمد منير» الذي يملك جرأة فكرية،يكتب الشعر ويغني،ويتعرض لمحاولة اغتيال بسبب أفكاره .‏ عمل سينمائي فيه الكثير من الشعر والحسيّة البديعة والجمالية الآسرة وامتزاج الواقع بالفانتازيا والتعبير الكوريغرافي . وكانت مقاربته لموضوع ختان النساء في مصر نافذة وحساسة بشكل كبير. تصدى بشجاعة كبيرة للموضوع ليخرجه من دوائر الحوار الاكاديمي والأدبي الضيقة الى فضاءات السينما الفسحة. 
قد تكون هذه المرة الأولى التي يتصدى فيلم مصري او عربي لهذا التقليد الاجتماعي البشع والمنتشر بشكل كبير في بلدان عربية افريقية. مافعله الفيلم بذكاء هو تماهيه مع الاسلوب الذي يسلكه الشرقيين في التعامل مع قضية ختان النساء وتحفظهم الشديد على الموضوع ، منذ المشهد الأول في الفيلم تشعر ان هناك شيء مسكوت عنه ، رحلة دنيا في اكتشاف الذات لن تكون سهلة وهي فتاة صعيدية تحلم بأن تصبح راقصة، سيّما أن والدتها راقصة شهيرة وقد أورثت ابنتها حب الرقص. وبعدما نقم ذوو والد "دنيا" عليه اذ اعتبروا زواجه من راقصة عاراً، قرر أخذها من والدتها الى عمتها كي تتولى تربيتها. بعدها ذهبت "دنيا" الى القاهرة حيث درست في كلية الآداب. لكن ذلك لم يمنعها من ان تكون راقصة على غرار والدتها. فنجحت في اختبار مسابقة الرقص الايقاعي وأخذت تتلقى دروس الرقص على يد مدرب. من ناحية اخرى، دفعها حبها للشعر الى التقرّب من الاستاذ الجامعي والكاتب (محمد منير) المنفتح والجريء، المدافع عن (ألف ليلة وليلة) في سياق دفاعه الشرس عن الحريات الذي تكنّ له مشاعر لا تدري ماهيتها .فرأت فيه ما يشبع نهمها العاطفي سيّما أن زوجها يتهمها بالبرودة الجنسية في حين تعزو دنيا سبب ذلك الى عادة الختان ، ثم أستاذ الرقص، الذي يريد أن يكون الجسد أداة للحرية والتحليق في فضاء الروح، بعيداً عن حصار المادة والتزمّت.و يضعها على الطريق الصحيح وصولاً الى المصالحة الكبرى مع الذات حين تهجر الزوج وتتحد مع الاستاذ. حب يصالح الروح والجسد. الروح المقهورة. والجسد المكبوت. الأمر الذي نكتشفه شيئاً فشيئاً في سياق الفيلم، فنفهم مشكلة الفتاة والختان التي عقّدت حياتها وحياة كثيرات من امثالها
مع هذا الفيلم الجميل صاغت جوسلين صعب مشهدية جذابة. هي لوحة فانتازية تتجاوز الواقع الى سحر المشهد من دون التنكر لذاك الواقع بل انطلاقاً منه الى آفاق تعبيرية حرّة وفنية، تتبنى مبدأ أن الفن الحقيقي لا يسجّل الواقع بل يحاكيه ويعيد تشكيله .
في إطار فانتازي ممزوج ببعض الإثارة والتشويق تدور أحداث فيلم جوسلين صعب "شو عم بيصير" (2009)، حيث (جلال) الذي ندم على أنه لم يأخذ عن والده مهنة الخياطة ، فيبدأ في العيش داخل الأحلام ، ويكتب رواية جديدة ، فيرسم ، ويخيط جسم روايته ، يقتطع أجزاءً من شخصيات واقعية ليرسم شخصيات روايته، يسرق قلب (خلود) ليضمه إلى صفحات روايته ، ثم يخيطه لها مجددا بإبرته كي يجعلها تتفادى عملية زرع قلب في المستشفى .
انجزت الصحافية الفرنسية ماتيلد روكسيل، كتاب "الذاكرة الحرون" (Mémoires indomptée) الصادر بالفرنسية حول جوسلين صعب المناضلة وسينماها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق