بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 30 مايو 2025

في رحيل محمد لخضر حمينة... أفلام توثق تاريخ بلد وثورة وأناس

 


الجزائر- محمد عبيدو


مع احتفاء مهرجان كان السينمائي بمرور 50 عاماً على "سعفة" العرب الوحيدة لـ"وقائع سنوات الجمر"، رحل مخرجه المبدع الجزائري محمد لخضر حمينة. مقاربة تجربة الراحل مقاربة لتاريخ السينما الجزائرية، منذ بداياتها، وفي فترتها الذهبية، فالإرث الفني الجمالي صاحَب الذاكرة في تماهياتها الجمالية المخيالية مع الحدث التاريخي الواقعي، عبر تحوّلات السينما في الجزائر، في تشظيّاتها المتعدّدة واستلهاماتها للواقع في تفاصيله المتجدّدة، وتحوّلات اللحظات العميقة في الذاكرة.


في مسيرة تطوّرها، تميّزت السينما الجزائرية بالتباين والاختلاف في أنواع الأفلام المنتجة ومضامينها، بسبب عوامل عدّة، أهمها تعدّد السياسات والمسؤولين عن تسيير قطاع الثقافة والسينما وتنوعها، والتحوّلات الكبرى التي عرفها المجتمع في مستويات اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة. تزامُن بدء الإنتاج السينمائي الجزائري مع ثورة الشعب ضد الاحتلال الفرنسي، بين عامي 1954 و1962، لعب دوراً كبيراً في صياغة توجّهه إلى تصدير حقائق الواقع المعيش، وتسجيل الأحداث التاريخية، خاصة تلك المتصلة بالثورة الجزائرية. النواة الأولى لمدرسة سينمائية كانت لجيش "جبهة التحرير الوطني"، تشكّلت من خلال لجنة السينما التي أنشأتها الحكومة الجزائرية المؤقتة، وأُنتجت أعمال وثائقية عدّة في تلك الفترة نفسها، منها: "جزائرنا" لجمال شندرلي ولخضر حمينة، و"ياسمينة"، أول عمل لحمينة، إلى أفلام ريني فوتييه مثلاً. من هنا، كانت أولى المعارك الكبيرة للصُور تخسرها فرنسا الاستعمارية في حربها ضد الشعب الجزائري.


حمينة ممثل وكاتب سيناريو أيضاً، ولد رسمياً في 26 فبراير/شباط 1934 (في بيان عائلته، فإنه عمره ناهز الـ95)، في مدينة المسيلة، التي بقي وفياً لها، وصوّر فيها أفلاماً عدّة، رغم تنقّله في أماكن كثيرة، من بداية حياته الدراسية في فرنسا، إلى تونس زمن اندلاع الثورة الجزائرية، حيث انضمّ إلى صفوف الثورة هناك. دخل المجال السينمائي عام 1959، عندما أرسلته "جبهة التحرير الوطني" إلى مدرسة السينما في براغ. عاد إلى بلده عام 1962، وعمل مع زملائه في تونس عام 1974. أغلب أفلامه حينها عن ذاكرة الثورة التحريرية، لكنّه لم يصنعها وفق السردية الرسمية عنها بعد الاستقلال، إذْ ترك لنفسه مساحة المبدع، المسكون بالأسئلة وخيال الصورة.


"ريح الأوراس" (1966) أحد أهم أفلام تلك الفترة، وأقواها تعبيراً عن الإنسان الجزائري، بلغته السينمائية الشفّافة والشاعرية: قصة عائلة جزائرية دمّرتها الحرب، عبر رصد حياة ثلاثة أشخاص: الأب والأم والابن، الذين تسير حياتهم بشكل طبيعي، بحـسب الطقوس العائلية، وبأعمال بسيطة كافية لتحقيق العيش، ثم يجدون أنفسهم فجأة في الدوامة: يقتل الأب في هجوم قوات العدو، فيتحمّل الابن، المنتسب إلى وحـدة عسكرية في جيش التحرير الوطني، متمركزة في موقع قريب من بلدته، مسؤولية العائلة. أمّا الأم الفلاّحة (الممثلة كلثوم)، فتعيش حالة انتظار، خاصة بعد أن اعتقل الفرنسيون ابنها، ما دفعها إلى البحث عنه في معسكرات الاعتقال، منتقلة من ثكنة إلى ثكنة، ومن معتقل إلى معتقل، حتى تجده، فتكتفي بمتابعته بنظراتها يومياً من خلف الأسلاك الشائكة. لكنّها تفقد وعيها عندما يختفي مجدّداً، وتلقي بنفسها على الأسلاك الشائكة التي تصعقها، فتموت.


هذا الفيلم، الحائز على جائزة العمل الأول في مهرجان كان، شكّل نقلة نوعية في المعالجة السينمائية لحرب التحرير. تعرّض موضوعه وشخصياته للنقد، وتميّز أسلوبه وصوره بعمق. كما أعلن عن ولادة مخرج ملتزم بقضية إعادة بناء صورة للكيان الوطني لبلده، فنياً وجمالياً، عبر مفردات اللغة السينمائية، وصورة مُحمّلة بالذاكرة.

العمل الدرامي المؤثّر والشاعري، الذي قدّمه حمينا في أول أفلامه الروائية، لم يمنعه عام 1968 من تقديم فيلمٍ كوميدي بارز بعنوان "حسن الطيرو": صورة مؤثّرة وإطار كوميدي يتناولان كيف تؤدّي ظروف الوطن الصعبة، إبان الاستعمار، بموظف بسيط إلى أنْ يصبح ثائراً من دون أن يدري. كسر حمينة فيه الهالة الكبيرة المحيطة بالثورة الجزائرية، بولوج أبوابها عن طريق الضحك والمرح، مُقتبساً إياه من مسرحية لرويشد، ديوان الأحداث الجزائرية. عرف الفيلم نجاحاً ساحقاً في شباك التذاكر، ورغم مرور نحو نصف قرن على إنجازه، لا يزال يُعرض في القنوات التلفزيونية إلى اليوم، وينال نسباً مرتفعة من المُشاهدة، أمّا "وقائع سنوات الجمر" (1974)، فلَقِي صدى كبيراً، إضافة إلى نيله أكبر جائزة يحصل عليها فيلم عربي إلى اليوم: السعفة الذهبية لمهرجان كان.

هذا الفيلم شاهدٌ موثِّق لنضال الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي من أجل الاستقلال والحرية المضرجة بالدماء. لم يكن مجرد فيلم يناهض الاستعمار، ويتناول إحدى أهم الثورات العالمية، بل عُدّ من أبرز كلاسيكيات السينما العالمية، ومن أضخم الأفلام التاريخية التي نفّذت خارج هوليوود بمفردات سينمائية متينة، ومشهدية مميزة. البداية من الصحراء والأرض التي عاشت سنين جفاف، وصولا إلى أعوام الخصب والنمو، التي لا تخلو أيضاً من صراع الأهالي من أجل اقتسام المياه. دمج حمينة بين مفردات الطبيعة، وتصيّد أبسط الأشياء، أياً كان حجمها، وأبرزها بلقطات جمالية فنية، مازجاً بين عناصر المياه والنار والأرض والدفاع عن الوطن. كلّ تلك العناصر تفاعلت لتجسيد معاناة شعب يريد الاستقلال لبلده، وصراع الفلاّح أحمد في البداية مع الطبيعة والجفاف. ثم تحوّل بعد رحيله من الصحراء إلى مجاهد، فدخل في صراع مع المحتل، باحثاً عن حقه السياسي في التحرير والحرية.


يقدم حمينة وجهة نظر سينمائيّ، يستخدم الكاميرا لإبراز مشاعر التشرّد والحرمان والمعاناة التي سبّبها نظام الاستغلال الاستعماري. والصحراء، التي تكرّرت في أفلامه، ليست مجرّد ديكور، بل فضاء بصري للدراما الذاتية والجماعية. وبصورة رمزية، مليئة بالمجازات، صوّر الراحل وضع المرأة المتزوجة في المجتمع الصحراوي، فكان "رياح رملية"، أو "العاصفة" (1982). أحداثه تجري في قبيلة تعيش في واحة وسط الصحراء، مُحاطة بالرمال، وتهبّ عليها باستمرار العواصف الرملية التي تغطي البيوت والخيام، وتدخل مسام الجسد، وتكتم الأنفاس. في كلّ مرة تهبّ العاصفة، يقع أهالي القبيلة في صراع محموم، لدرء أخطار الرمال.


فتح محمد لخضر حمينة، مرة أخرى، في "غروب الظلال" (2014)، صفحة من صفحات تاريخ الثورة التحريرية، من خلال صور تمثّل بشاعة أعمال الاغتيالات الجماعية، والتعذيب الجسدي والنفسي الذي تعرّض له الأسرى. هذا الفيلم عبارة عن جدارية ثرية، جمالياً ومحتوى، إذْ جال المخرج على خطى أبطال فيلمه الثلاثة في رحلتهم الشاقة في الصحراء، مستعيداً شيئاً من تاريخ العلاقة الجزائرية الفرنسية، مع بداية الاحتلال. تطرّق المخرج الراحل إلى مراحل مهمّة من تاريخ الثورة، على لسان أبطال الفيلم: خالد ابن الصحراء الثائر في وجه ظلم المستعمر، والرائد الفرنسي سانتوناك، الجلاّد الذي، من خلال حديثه وأعماله الإجرامية، يرمز إلى استمرار الوجود الاستعماري، والجندي لامبير، الذي يمثّل القوة الثالثة، بأفكاره المناهضة للتعذيب وقتل الأسرى.

نقلا عن جريدة العربي الجديد 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق