محمد عبيدو
لا يمكن الحديث عن بدايات التأسيس لسينما وافلام ثورة التحرير الجزائرية دون التوقف عن اسهام رينيه فوتييه فيها كما كان على علاقة وطيدة بقادة الثورة، أمثال عبان رمضان، وكون العديد من جنود جيش التحرير في السينما والتصوير.. يمكن تلخيص حياة رينيه فوتييه على أنها رحلة من المقاومة السينمائية. وقد سعى المخرج دائما إلى جعل “الصورة والصوت متاحين لأولئك الذين تحرمهم السلطات القائمة منهم”. بعد أن اختبر هو نفسه الحرب العالمية الثانية، اختار، أن يقاتل و”الكاميرا في متناول اليد”.حياته الصاخبة شغلتها مواجهة مقص الرقيب الفرنسي، الذي طارد أعماله وألقى به في السجن وحجب أفلامه، ليستحق لقب “أكثر المخرجين الفرنسيين تعرضاً للرقابة”. هكذا تحوّلت الرقابة إلى شبح يلاحق أعماله، فأضرب عام 1973 عن الطعام شهرا كاملا، مطالباً بوقف الرقابة الفرنسية السياسية على الأعمال السينمائية، قبل تعديل القانون لاحقاً، وإنهاء هذه الرقابة المتشددة. رينيه فوتييه الذي شارك في السنوات 1968-1970 في مغامرة مجموعة ميدفيدكين، المجموعة الوحيدة من صناع الأفلام والعمال، عرفت سينماه بأنها “سينما التدخل الاجتماعي”. يجمع عمله بين الأفلام الوثائقية والخيالات التي كانت أغراضها دائما واحدة: أن تشهد على الصراعات وتحاول إقامة حوار للصور من أجل العمل على الصراعات. ولد فوتييه في إقليم فنستير الفرنسي، وهو ابن لعامل مصنع ومعلمة. حصل على درجة كروا للأعمال الحربية ووسام الأمة من شارل ديغول لنشاطه في المقاومة الفرنسية. وفي سنة 1948 تخرج من معهد الدراسات العليا السينمائي في فرنسا.
رينيه فوتييه هو مؤلف فيلم أفريقيا 50، وهو أول فيلم فرنسي مناهض للاستعمار يشهد على حالة السكان الذين يعيشون بين كوت ديفوار ومالي. كان قد التحق بالمقاومة عام 1943 ، وعمره 15 عامًا فقط. بعد الحرب ، انضم رينيه فوتييه إلى الحزب الشيوعي. ثم في عام 1950 ، كلفته الرابطة الفرنسية للتعليم بإخراج فيلم عن أطفال المدارس والتعليم الفرنسي في إفريقيا جنوب الصحراء وهو في بداية العشرين من عمره. لكن المواجهة مع الاستعمار عنيفة وسيحول فوتييه الأمر لاستحضار الحقيقة: عنف السلطات الاستعمارية ضد السكان بين كوت ديفوار ومالي.. الشريط الذي صوره في غرب أفريقيا منع لأكثر من 40 عاماً في فرنسا، وحبس بسببه عاما كاملا.
التحق هذا السينمائي الفرنسي (مواليد 15 يناير 1928 – 4 يناير 2015)، بالمقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي منذ لحظتها الأولى. وكسينمائي شاب، أخرج عشية انطلاق حرب التحرير الجزائرية فيلماً وثائقياً يتناول العنف الهائل للغزو الفرنسي للجزائر ” الجزائر أمة ” (1954). منعت الرقابة “الجزائر أمة” وحكم على فوتييه بجرم “الإساءة للأمن الداخلي للدولة”. وحُبس وعُوقب لأنه صور ما رأى وما كان لا يروق للسلطات إظهاره. في العام 1956، التحق فوتييه بالقواعد المسلحة الجزائرية عبر تونس، فكان يعطي بواسطة عدسة كاميرته وجهاً وصوتا للمقاتلين الجزائريين. وقد عَرّف فيلمه “الجزائر تشتعل” الذي صوره عام (1958) العالم كله على القضية الجزائرية أنتجه بالتعاون مع شركة RDA من جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وقد أحدث هذا الفيلم ضجة كبيرة آنذاك لأنه صور في قلب الأوراس وجسد الحياة اليومية للجنود في الجبال وبعض الأعمال الفدائية التي قاموا بها. وقبل سنوات من توقيع “معاهدة ايفيان” بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية (1962)، قال اندريه مالرو “رينيه فوتييه هو فرنسي رأى الصواب وكان محقاً قبل الآخرين”.
وحين استقلت البلاد بعد 7 سنوات من الحرب الدامية، استقر فيها رينيه فوتييه متابعاً سرديته الجزائرية. وأخرج “شعب يسير” وهو أول فيلم في الجزائر المستقلة. وبقي في البلاد بضع سنوات وساهم في إنشاء المركز السمعي البصري بالجزائر عشية الاستقلال، والذي كان منوطا به تكوين السينمائيين والتقنيين الشباب في الجزائر المستقلة، وأشرف عليه حتى مغادرته الجزائر 1966.. ولكي يُكمل هذه الحلقة، أخرج فوتييه في العام 1972 “أن تكون في العشرين في جبال الأوراس” وهو حاز على جائزة النقاد العالمية في مهرجان “كان” في السنة ذاتها، وقد عرضت نسخته المرممة ضمن “كلاسيكيات البندقية” عام 2012.. يروي الفيلم قصة مجموعة من الشبان الفرنسيين المسالمين حولتهم الحرب الجزائرية الى وحوش. وروى الفيلم فرار جندي فرنسي في الجزائر رفض إعدام سجين جزائري بإجراءات موجزة، وسلط الضوء على عدد من الجوانب تم تجاوزها في صمت وضُربت بالحظر والرقابة، بدءًا من العنف الممارس على السكان المدنيين، بما في ذلك العنف المجاني، أي في الخارج. إطار التعذيب المنهجي للحصول على المعلومات. واعتبر رينيه فوتييه “ان التعذيب لا يمكن ان يكون محل فخر للفرنسيين بل بالعكس لقد انتبهوا الى انهم وضعوا نظاما كانوا حاربوه هم بانفسهم، قبل 15 سنة من ذلك، عندما تعرضوا للتعذيب، من قبل الغيستابو مثلا”.
تعمل أفلام رينيه فوتييه على مواقف معقدة وتضارب وجهات نظر: فهي تبحث عن طرق لسرد النضال الشعبي من خلال إعادة تأهيل السرد والتركيز على تفاصيل الحياة اليومية، والأوصاف الواقعية. نجد هذه الأبعاد في رسومات الأطفال الذين يشكلون الفيلم الوثائقي وأنا في الثامنة من عمري، لأقول رعب الحرب والمنفى أو في الحلقات الذهبية التي تتبع حياة قرية صيد صغيرة. في بعض الأحيان تكون الأفلام أخف وزنا وأكثر شاعرية، مثل أبناء عمومة ليه أجونس أو ليه تروا، وكلاهما يحكي قصة الهجرة والظروف المعيشية للعمال الجزائريين الذين تم جلبهم لإعادة بناء فرنسا . أخرج فوتييه أو ساهم في أكثر من 180 فيلماً من كل الفئات والأنواع، قد يغري المرء أن يضيف، في إشارة إلى ما كتبه الناقد جورج سادول عن رينيه فوتييه في عام 1951: “يعتقد فوتييه أنه عندما يقف جدار في طريق ما يريد إظهاره، فإن الحل الوحيد هو للركض عبر الحائط، والكاميرا في متناول اليد والتوجه إلى الأمام “.
وكان فوتييه قد حظي بعدة تكريمات في الجزائر على غرار الاحتفاء الخاص بمهرجان وهران للسينما العربية في 2012، والتكريم في شهر نوفمبر 2014 بسنيماتيك الجزائر بمناسبة ستينية الثورة .
محمد عبيدو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق