الجمعة، 26 أغسطس 2022

المخرج الألماني فريتز لانغ والسينما التعبيرية

محمد عبيدو 


فريتز لانغ مخرج أمريكي الماني كبير قدم أكثر من 30 فيلماً في المانيا و الولايات المتحدة ، هو الذي عاش بين 1890 و1976 وكان من أقطاب السينما الألمانية الصامتة، ثم حقق "م." ناطقاً، ليتوجه بعد ذلك الى فرنسا ومنها الى الولايات المتحدة حيث صار واحداً من كبار المبدعين في هوليوود، إذ حقق هناك عدداً كبيراً من الأفلام التي أمنت له مكانة مهمة. ومع هذا يظل فيلماه الألمانيان "متروبوليس" و"م." أروع وأغرب ما حقق... والأكثر التباساً واثارة للأسئلة من بين أفلامه جميعاً. طور اسلوباً بابتكار اجواء من خلال استخدامه للتعبيرية و الاضاءة و التحرير. وقد كان لعمل لانغ المبكر في الفن و العمارة أثر واضح في توجهه السينمائي.


يعد صاحب ثورة في عالم السينما:(هو إذا اخترع الكتابة السينمائية فقد أظهر في أفلامه كيف أن السينما وخلافاً لما عليه الأمر في المسرح لا تعمل عملها إلا عن طريق التأثيرات والصور ومقتطفات الحدث وقد صار فريتز لانغ الموجه المرجعي الرئيسي لدى سينمائيي الموجة الجديدة.فبالنسبة ل:غودار (إنه السينما) وإذا كانت هوليوود قد وفرت عملاً للانغ إلا أن علاقته بهوليوود خيمت عليها بشكل دائم الغيمة المظلمة . اجتذبته هوليوود بإمكانياتها التقنية لكنه ظل رافضاً أساليبها في الإنتاج الصناعي:(النكبة في ما يطلق عليه أنه (الصناعة) هو أن الأمر لا علاقة له البتة ببلوغ قناعة الجمهور..إنني أحب الجمهور..لكن قبل أن أتمكن من إقناعه,يتعين علي أولاً أن أقنع الوسطاء الذين لا يملكون أية فكرة عن أي شيء).

ولد لانغ في 5 ايلول 1990 في فيينا , والده انتون لانغ مهندس عمارة ووالدته باولا لانغ , وهو ابنهما الوحيد , كان والداه يريدانه ان يصبح مهندس عمارة . الا انه ابدى اهتماما اكبر بالرسم , ليسجل نفسه في اكاديمية الفنون التخطيطية ( الغرافيك – الحفر ) , وقام في عامي 1911 و 1912 , منطلقا من ميونخ , برحلة طويلة حول العالم , وفي عام 1913 استقر في باريس التي عمل فيها لكسب قوته رسام بطاقات بريدية وصور كاريكاتورية .وعندما انفجرت الحرب العالمية الاولى عاد الى فيينا واصيب بجرح اتاح له الوقت في المستشفى ليرسم ويكتب . اول سيناريو كتبه لانغ كان في 1916 وعنوانه السوط وارسله للمنتج ايريك رومير , وصور فيما بعد للسينما . واعتبارا من عام 1916 اخذ يعمل في التمثيل , وكتب سيناريوهات لشركة ديكلا السينمائية في برلين صورها جووماي . استقر عام 1918 في برلين وهو يشعر بالخيبة من طريقة تنفيذ سيناريوهاته فأخذ على عاتقه أمر إخراجها . وقد اخرج عام 1919 فيلمه الاول للسينما ( نصف عرق ) في خمسة أيام .
بالتعاون مع ت يفون هايو, التي تزوجها عام 1920 , كتب لانغ سيناريو فيلم " القبر الهندي ". في اواخر العام ذاته , رحل لانغ الى الى الولايات المتحدة التي مكث فيها شهرين , واخرج بعد عودته فيلم ( الموت المتعب ) وفيه تطلب فتاة شابة من الموت ان يعيد اليها حبيبها , ولكنها في نهاية المطاف , لايتسنى لها الاجتماع مع حبيبها مرة اخرى الا بعد ان تضحي هي بحياتها . ان القصة الاساسية لهذا الفيلم مأخوذة عن ثلاث قصص شعبية من الصين والبندقية وبغداد , وفيه بدا واضحا للمرة الاولى ان لانغ كان قادرا على بناء مؤثرات صورية رائعة استنادا الى حسه الهندسي الخاص . ( على سبيل المثال : إيقافه للموت أمام حائط ضخم هائل لا يسعه الكادر وثم على سلم يؤدي الى ما لا نهاية , والذي يتوجب دخوله عبر ممر مظلم وضيق ) ... ثم اخرج " النيبيلونغن " The Nibelunfen المصور في 1922 – 1924 والمؤلف من فيلمين : مصرع سيغفريد , و : انتقام كرييمهيلد , وفيه يبلغ الدلالة الأقوى لفنه . ولئن ألح على الترتيب والتناغم في إنشاءات معمارية ضخمة أملت بحجومها صافية صورة بنية على الفضاء الفيلمي ولها شكل مستويات واسعة تفصل ما بينها سهمية مدببة ( قصر ورمز , الكاتدرائية , الأدراج الضخمة , الخ .. 9 فانه عبر بذلك وبشكل أساسي عن طريق توازن تشكيلي : توازن بالغ تمامه في الجزء الاول سكوني , مرد استقراره تناظر الاشكال بتشدد , ولكنه بالمقابل غير مستقر , حركي, قائم على عدم التناظر في الجزء الثاني , بما لايقل تشددا . كل صورة في الفيلم تتركب بحيث تتم ترجمة الحدث الدرامي رمزيا بواسطة بنى الديكور , كما لو ان الديكور لم يكن الا الانعكاس المتبلور للحدث الدرامي مجسدا ومكبرا بلا حد . في القصة : سيغفريد ابن ملك كزانتن قرّر ان يحظى بقلب كريميهلد سليلة ملوك بوغنديان في مدينة ورمز. وفي طريقه الى البلاط يصادف تنيناً فيقتله ويلطّخ جسمه كلّه بدمه مما جعله لا ينال أذى في كل موقع لطخه الدم إلاّ بقعة صغيرة بين كتفيه. ويقيم له الاخوة الملوك الثلاثة: غانتر، غرنوت وغيزلهر استقبالاً حاراً ويزوجونه كريمهيلد. لكن المؤامرات تؤدي الى قتل سيغفريد فتقسم كريمهيلد على الانتقام ويكون لها ما ارادت .
واخرج فريتنر لانغ فيلمه الدكتور مابوزة. Dr. Mabuse, The Gambler(1922) : جزءان: الأول باسم "غامبلر الكبير صورة عن عصرنا"، والثاني: "انفرنو" وكلاهما من إخراج
دكتور مابوز رجل بوجوه وأسماء عديدة. تدبّر حيلة للتلاعب بأسعار السوق. ولم يلبث ان ظهر في أوركسترا برلين الفلهارمونية محللاً نفسياً. ودفع صديقته الراقصة كارا كاروزا الى ملاحقة المليونير الشاب هول، وعلى طاولات القمار سلبه كلّ أمواله بعدما نوّمه مغناطيسياً. ويبلّغ هول الشرطة بالأمر فتكلّف المفتش فون وينك اقتفاء أثر المحتال. ويلقي القبض على الراقصة التي لم تبد تجاوباً معه. في المقابل يسعى مابوز الى التخلّص من المفتش لكن رجال الشرطة يستطيعون انقاذه ويتمكن مابوز من الهرب لكنه لا يلبث ان يفقد عقله تماماً. اثناء سير الاحداث في الفيلم , حيث يجمع مابوزاكبر قدر من النقود , تصبح رغبته في القوة اكثر تجردا ,

في عام 1927 قدم فيلمه التحفة : متروبوليس Metropolis - صامت، وتبلغ مدّة العرض 118 دقيقة : على الرغم من مرور 70 عاماً على عرضه، تبقى أحداث الفيلم معاصرة لكلّ زمان ومكان، وتبقى تقنيّته المتقدّمة تدهش المخرجين اليوم وتجعل منه أحد أبرز الأفلام التي شكلت محطة هامة في تاريخ السينما. كونه مخرج رؤيوي، نقل فريتز لانغ المشاهد ة إلى عالم الخيال عبر الديكورات المذهلة.

ميتروبوليس هو أبرز فيلم للانغ ، فهو يجمع بين الفانتازيا و الخيال و النقد الاجتماعي.
يتناول الفيلم قصة مدينة مستقبلية ، حيث تعيش فيها الطبقة الراقية و الغنية حياة رفاهية ، بينما العمال مستعبدون تحت الأرض لكي يحافظوا على صيانة الآليات التي تبقي المدينة حية.
و تبرز أهمية الفيلم في كونه أحد أهم الأفلام الخيالية الأولى ، و ببراعة تصويره و ديكوراته الغريبة. يعكس انسحاق الطبقة العاملة وابتلاع وحش الرأسمالية لها
تدور أحداث الفيلم في "متروبوليس" مدينة المستقبل، يملك الصناعي الكبير يوهان فردرسون سعيداً على مدينة متروبوليس. أرباب المال والسلطان يسكنون الأبنية الشاهقة وفي أسفل المدينة يعيش العمال في ظروف سيئة. حيث يكبر الصراع بين أرباب العمل وبين العمّال. في هذا الجو المشحون بالبغضاء، يغرم إبن الرأسمالي الغني فريدرسن بالفتاة الفقيرة ماريّا القادمة من وسط العمال منتجع "الحدائق الأبدية" حيث يمضي أبناء الأثرياء أوقات لهوهم. وسرعان ما يتبنّى قضيّة العمال المستغليّن من قبل أرباب العمل.عندها يقرر فريدرسن إبتكار رجل آلي على شكل ماريّا من أجل إخفاق الثورة التي كانت تتحضّر في الخفاء.

فيلم " م " : ، وقد كان ظهور الفلم في ألمانيا في تلك الفترة عبارة عن صدمة حقيقية قامت " بتعرية " الواقع المرير للشارع الألماني ، ولكن وبالرغم من الجلبة التي أحدثها الفيلم هناك إلا انه لم يلقى الإقبال المتوقع بعكس الصدى الواسع الذي لقيه الفلم في أمريكا وهذا كان إحدى الاسباب التي جعلت من هوليوود وجهته الثانية , «م» مختار من أحداث حقيقية وقعت في العشرينات بطلها قاتل أولاد أسمه بيتر كورتن لُقِّب بـ «سفّاح دوسلدورف». فريتز لانغ، لم يسع الى أن يجعل "بطل" هذا الفيلم نسخة طبق الأصل عن المجرم الذي كان روّع المدينة الألمانية الكئيبة، بل انطلق من الشخصية ليقدم صورة معدلة: صورة قاتل أطفال صاحب مركبات نقص، وحيد. يرتكب جرائمه حتى من دون أن يعرف هو نفسه لماذا يرتكبها. وسيكون من الواضح بعد ذلك بسنوات ان ما رمى إليه فريتز لانغ من تحقيق هذا الفيلم، لم يكن مجرد الحديث عن مجرم، ولا مجرد إثارة الشفقة من حول ضحاياه. هو نفسه سيقول بعد تركه ألمانيا النازية واستقراره في الولايات المتحدة بعد فرنسا، ان غايته إنما كانت فضح جانب أساسي من جوانب النازية، مستشهداً على ذلك بأن الاسم الأصلي للفيلم كان "القتلة يعيشون بيننا"، لكن الرقابة التي كانت في ذلك الحين بدأت تخضع لبدايات الهيمنة النازية لم تسمح به، فأطلق عليه اسم "م" ثم سمي "م. الملعون"، وهو الاسم الذي لا يزال يحمله حتى اليوم. والمنهج الذي خطّه يقوم على ثلاثة فصول: الأول تعريفنا بالقاتل وبواحدة من ضحاياه (طفلة يشتري لها المجرم البالون ويأخذها من يدها). الثاني الفصل الذي يصوّر تبعية هذه الجرائم على البوليس وعلى مجرمي العالم السفلي. والفصل الثالث، هو القبض على بكهرت وتقديمه للمحكمة.


لا يفرّق لانغ كثيراً بين البوليس والخارجين عليه (وهو لاحقاً في فيلمه «الحرارة الكبيرة»The Big Heat الذي حقّقه سنة 1953 بعد عدّة سنوات من انتقاله الى هوليوود يُعيد رسم مثل هذه الصورة). رجال البوليس يبدون أحياناً كما كانوا مجرمين، كما أن المجرمين هم الذين يلقون القبض على السفّاح وليس رجال البوليس. علاوة على ذلك، كلا الفريقين يخطط لقتل السفّاح حين القبض عليه.

ثم يبدأون في محاكمته بشكل صوري وقد قرروا أن ينهوا الأمر بإعدامه، لكن السلطات تتدخل في اللحظات الأخيرة لتقبض هي على المجرم مخلصة اياه من بين أيدي العصابات، حتى تتمكن هي من محاكمته أمام العدالة.
و يستخدم لانغ الصوت في هذا الفيلم استخداماً رائعاً لكي يعزز من سخرية و غموض الفيلم في أسلوب تعبيري ليخرج بتحفة فنية رائعة.
بعد فيلمه " الوصية الأخيرة للدكتور مابوزه " الذي منعته الرقابة النازية , غادر ألمانيا عام 1933 , بعدما طلق ت يفون هاريو التي كانت متعاطفة مع النظام النازي ز في ذلك العام صور لانغ فيلمه " ليليوم " في فرنسا . وفي عام 1934 انتقل الى كاليفورنيا , وحصل على الجنسية الامريكية عام 1935 . قرر لانغ بعد عدة مصاعب عانى منها ان ينتج أفلامه بنفسه .
" مساهماتي في الحرب " هي العبارة التي كان يطلقها لانغ على افلام قدمها في أمريكا : " صيد رجل " و " الجلادون يموتون ايضا " و " وزارة الرعب " و " العباءة والخنجر " .

فيلمه “صيد رجل” 1941 يدور حول مؤامرة لقتل هتلر تمّت مباشرة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وقبل دخول الولايات المتحدة طرفاً فيها. العام هو 1939 ونرى في مطلع الفيلم الممثل وولتر بيجون وهو يمشي في غابة مكتظّة تقع في منطقة بافاريا. يصل الى نقطة اختارها من قبل ويجعلها نقطة عمله. يوجه بندقية القنص التي كان يحملها على الهدف الماثل أمامه: أدولف هتلر.
آخر أفلامه التي عمل فيها كممثل كان فيلم " الاحتقار " للمخرج جان لوك غودار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق