الجمعة، 12 مايو 2017

مقال قديم للشاعر الراحل طلعت سقيرق .. محمد عبيدو والبوح الشفاف في ( الغياب ظلك الآخر )

هل كان على الشاعر أن يقول الكلمة بحجم البوح والجرح ، لتكون القصيدة على شكل نجم مسكونة بالقلب وما شئت من حكايا الروح ؟؟ أم كان عليه أن يمسك عنان البدايات المتداخلة مع النهايات لتكون المسافات ذات نبض وعشق ؟؟ ..
محمد عبيدو القادم من السلمية ، أم الشعراء ، يحاول قدر المستطاع أن يعطي الجملة الشعرية الكثير من ملامح النفس . لذلك تغيب عنده في كثير من الأحيان قصدية الامتداد والذهاب مع طول الموال . هنا أعترف أنني كثيراً ما ألمح تطابقاً بين القصيدة ومحمد عبيدو . كنت أرى ملمح ذلك في ديوانه الأول (( وقت يشبه الماء )) الصادر عام 1987 ، أي عندما كان الشاعر في الثالثة والعشرين من العمر .. والآن ، حين أقبض على هذه الجمرة في ديوانه الصادر حديثاً (( الغياب ظلك الآخر )) أستطيع أن أقولها بوضوح ، فالشاعر الذي نضجت تجربته على ما يبدو ، ما زال شاعر القصيدة / التجربة .. فهو لا يقول أبداً قصيدة تخلع ملامحها من ملامحه .. ولك أن ترى الشيء الكثير من (( ركض)) القصيدة ، وتأسيس بنائها على أنها ومضة ، حالة خاطفة ، صورة سريعة في الذاكرة .. زمن يعيش حالة الزمن الراهن .. هل أمرر هنا جملة تدّعي أن شاعرنا محمد عبيدو ملول .. ربما عليّ أن أقول بصراحة إنه يميل بشكل واضح إلى اختصار الأشياء ، وأحياناً تكثيفها إلى أبعد حد ..
في (( حنين )) على سبيل المثال نسمع (( آخر الليل / والعشاق الوحيدون / يميلون إلى الحزن الشديد / كلمات رقيقة / صافية كبللور / ترتعش / تسقط / تتناثر كالندى / تنساب كدمع الورد ))
هناك مهما أردنا أن نحكي حكاية هذا الألق ، بقية ما تزال
الشاعر لا يغلق الجملة ، ولا ينهيها .. تبقى الجملة جملة اختصار من جهة ، وجملة انفتاح على الكثير من جهة ثانية ..والأغلب أن محمد عبيدو يجيد الرسم الهامس ، البعيد بالتأكيد عن الخفوت .. ولي أن أقول هنا بحزن تراه يطلق الكثير من ظلاله كلما قرأت أكثر..
يمكن هنا أن أقف عند قصيدة (( الكلام الأخير )) لأرى إلى الكثير من الحزن (( ورقة أخيرة / تهتزّ على شجرة الشتاء / في شرفة الحلم / أبني شجوناً / لتخرج آخر العصافير للسماء / أرتب صمتاً / لياسمين يطلّ على الشوارع / لمدن لا تغني نشيد الرحيل / لامرأة تحملني على راحتها / وتغسلني بضوء عينيها / ليورق على كتفي الشجر .. )) .
كم أنت حزين يا صديقي ، رغم هذا الانفتاح الحالم على نشيد يستطيع أن يسقط عنك كلّ هذا الحزن .. أعذرني إن وجدتك (( مسكوناً )) بالألم والقلق وبرد الشتاء . . أتعرف أنني حين قرأت قصيدتك (( سؤال )) أعدتها مراراً .. الصور جميلة لا تكون إلا صور شاعر مبدع .. الألوان ، وهنا المشاكسة ، توحي بالكثير من التفاؤل ، المفردات تنقر حبات القلب بانسيابية وتلقائية تعطيك الشعور بضرورة الوصول إلى شاطئ مليء بالأمان .. وفجأة يكون الحصار والانغلاق والانكسار .. وأهمس في أذنك ، رغم كل ما في هذه النهاية من مرارة ، فقد كان جمالها في أن تكون كذلك .. ولي أن أترك القصيدة للقارئ : (( من أهدابي حتى أول النجوم / تمتدّ قصة شجن طويلة / مأخوذاً بضوء حركاتك / أرقب العصافير تشرب من عينيك / ثم تأتي لتنام في دمي / أعوام من اللهاث / وأنا أعبر قوس الانتظار / سائراً في اللحن / الوحيد / المؤدي إلى قلبك / فلماذا لم أصل ..)) .. ؟؟ هذا هو السؤال .. والحكاية لا تكون إلاّ في سؤال ..
أقرأ هنا قصيدة (( خريف )) : الأصدقاء للوحشة / وجهي لاشتعال الماء / عيناي لمرايا الانتظار / قلبي للاندحار / أنت للغياب / ووردة مرمية على طاولة الغياب )) وقصيدة (( مبلل بالندى )) : رغم أنني / لا أكف عن الجري / باتجاه وجهك / العزلة ترشح في قلبي / مبلل بالندى الهاطل / من شجر الغياب / لن أجد الهناءة / حتى لو سكنت قلبي / نجمة الصبح )) وقصيدة (( ارتباك )) : تأمل لا متناهٍ / واختفاء عميق بالعزلة / صمت / ووقوف دائم خارج البهاء / قلق / وهدوء مرتبك / يخلخل جنبات الروح / تشرد أصابعه المضطربة / على طرف الحلم / ويخط : وجهك / سماء مطرزة بعصافير الرحيل .. )) ..
ويمكن أن أقرأ أكثر … لكن لي أن أتوقف قليلاً مع صديقي .. لا أريد طبعاً أن أتلو حكاية النشيد ، ولا أن أحكي قصة دخول كل هذا الورد الحزين في فسحة الروح .. لكن لأرى أن محمد عبيدو يستطيع بحق أن يعزف على وتر المفردة (( المرآة )) حيث تستطيع المفردات أن تنقل الإحساس بدفقته الشعورية دون مواربة .. وذلك يعيدني إلى ما كنت قد قلته عن حالة (( التطابق )) .. فالشاعر لا يترك التجربة خارج فعل المفردة ، بل يسعى مباشرة إلى الالتحام بها ..
قد يعتب الشاعر إن تركت قصيدة (( سماء للقصيدة )) في قولها : الأصدقاء / منحدرون من سلالة الرفض / لأجل الحرية / ينزلون من كهف الدموع / إلى ممر الحب / بأيديهم المدهشة / يرسمون فضاء / قصيدتك المقبلة )) حين يرى في مرآتها ، ومرآة مثيلاتها ، شيئاً من فضاء التفاؤل ، لكن لا أستطيع البعاد عن ملمح الحزن ، مهما حاولت ، ولست أجد إلاّ الجمال في هذا الجنون الجليل .. لكن لي هنا أن أنتقل إلى شيء من فعل التقارب .. كيف ؟؟ ..
في القصيدة الأقرب إلى البوح (( على حافة الروح )) يقول محمد عبيدو : *من الفتنة الغامضة للغيابات / يسيل خطوك في المدينة / لا حبيبة ولا صديق / متفرداً : كملاك صامت / الأرض تصغي إلى إيقاع دمك / مع وثبات القلب / تبعثر الأمكنة / تترقب وحدتك ..)) و (( وبحزنك العالي تنادي أحلامك المستحيلات / وعلى حافة الروح / تتلو مراثيك الأخيرة )) ..
وفي قصيدة (( صوتك الأليف )) يقول : كل الأشياء / رتبتها على موعدك / كل الساعات برداء النهار ، أو بالبوح المتلاحق : نبيذ النشيد ، شفافية المعاني ، رائحة الحجر ، رهافة العيون ، الأسرة ، جبل البكاء القديم ، جوهر النار الخالص / العشب المأخوذ بالغناء ، الاستثارة ، والشحوب ، الانتظار ، الاصباحات البيضاء ، شجر الضوء المشدود إلى العالي ، حديث الملائكة ، صرخة المخيلة .. وكل شيء / آتيك مسرعاً / طاوياً المسافات الرمادية لجسد المدينة ..)) ثم وبصوت أقرب إلى استيقاظ كل الصباحات (( أحمل قلبي وردة / سيد اللحظة القلقة / أقف مبللاً بالصيف / أضع وردي بين يديك النديتين / أيتها الأقحوانة الأكثر صفاء / لا تحجبي ألق ابتسامتك النيرة / لا تخرجيني من صوتك الأليف )) ..
في الاقتراب ، وحتى التقارب ، ترى محمد عبيدو في كل المساحة .. وإذا كانت أكثر القصائد المنشورة في الديوان تعود إلى العام 1990 . والقليل إلى العام 1991 ، بما يعني وجود فسحة زمنية ما بين القصيدة والشاعر .. فما زلت أراه في الكثير من (( مرايا )) مفرداته ، وخطوات قصائده .. وهناك دائماً الكثير من الفواصل التي تبرز فجأة لتقول بالحاضر ..
محمد عبيدو في ديوانه هذا يقدم خطوة جديدة تنقل بوحه بصدق ، ويعبر عن ملامحه الشعرية والشاعرية بتميز .. ولي أن أقول بشاعرية جميلة عند محمد عبيدو تبقى واعدة بالكثير ، وأختم بقوله : الجدران ضاقت بالأحلام / والأيام تمضي / والطفل الساكن في دمي / المتروك .. المهمل /يعدّ التفاصيل / يحاور البكاء / يحاور الفراغ / يبتكر ذكريات / ردهة الموت الزمنية / الطفل الساكن في دمي - في الزمن الغامض يحمل بين أصابعه ضوءاً – مفتون بالجنون / يشرب من نبع الحلم / وبدهشة النشيد / يبتكر المعاني / جنونه منطلق / كعصفور الخريف / نحو فضاء آخر / صمته حبر سماوي / يرتل لغة عصية القراءة / بغياب ألم الأنبياء / الممزوج بقسوة الدمع / ونهايات الندى )) من قصيدة (( عصفور الخريف  )) .
مجلة إلى الأمام (35) العدد 2284 - 31 / 8 / 1995 م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق