محمد عبيدو
أليخاندرو أمينابار
من أبرز المخرجين الأسبان الجدد، وكأغلب المخرجين الجيدين يتبع أسلوب صانع الفيلم الذي
يشمل إلى جانب الإخراج كتابة النص، بالإضافة إلى ذلك يقوم ألمنبار بوضع موسيقاه التصويرية
بنفسه، مشكلا حالة متكاملة من الإبداع
ولد في 27 اذار
1973 من اب تشيلي و ام اسبانية هاجرت لتشيلي هربا من الحرب الاهلية الاسبانية . وعادت
عائلته الى اسبانيا , واليخاندرو في عامه الأول , بعد انقلاب بينوشيت الفاشي. حيث كبر
ودرس في مدريد . بدأ دراسة السينما فى عام 1990 ، وكانت الدراسة تركز على تقنييات الصورة
والصوت ، كان هذا فى جامعة ( كومبلوتنس ) فى مدريد ، ولسوء الحظ فان هذه الدراسة كانت
تفتقر الى التدريبات العملية ، ولذلك فقد ترك الدراسة بعد ان رسب عدة مرات بشكل تعسفى
، ثم بدأ فى اخراج الافلام القصيرة منذئذ ولقد انفتحت الدنيا امام هذا السينمائى الصغير
.فى عام 1991 عمره 19 عاما ، فانه عرض اول افلامه القصيرة ( الرأس ) " cabezay " الذى نال جائزة جمعية صناع السينما الهواه المستقلين
، كما كان هذا الفيلم هو بداية زمالته مع ماتيو جيل - كاتب السيناريو والمخرج الاسبانى
– والذى يعتبر شريكا فنيا لامينابار فى مشواره الفنى . وبعد اربع سنوات قدم فيلمه الروائي
الطويل الأول "تيسيس" Tesis الذي ظهر على المستوى الدولي عام 1996وهو
فيلم إثارة يبحث عن الخط الفاصل بين العنف التخيلي و الحقيقي . وأثبت أن نجاحه الأول
لم يكن من فراغ . فقد كان لفيلم Open Your Eyes " افتح عينيك " نجاح مدويّ عندما عرض
لأول مرة في كانون الاول من عام 1997 في أسبانيا . و وزع على مستوى عالمي, وشكل تجربة
فريدة في السينما لمن سيحظى برؤيته
" افتح عينيك "
:
يقول انطونيو تابوكي
: أن المشاعر التي تجتاحنا بغتة أما الرؤية الأولى لشيء أو مكان، أمام درب لم نتعرف
على مواضع الخطوات فيه من قبل، تمر على الدماغ دون أن يتمكن من إدراكها. لذلك
تظل بلا هوية بلا اسم. مما يربك الإنسان عندما تجتاحه مرة أخرى
وهو يراجع ذاكرته لتعريف هذا الشعور المألوف والمجهول معا، الذي يحتفظ بقوته وغموضه
كلما حضر.كم هو من المحزن أن نعجز عن امتلاك أسماء
عواطفنا.
فيلم أمينابار " افتح عينيك " يحمل ضمن عدته هذا الهم،
هم المشاعر المجهولة. فيلم وجودي عذب رغم دكانته، يستخدم قصة
خيالية تتسلق عليها تأملات عميقة متنوعة في قالب محكم.
. فيلم بهذا الذكاء , بهذه الجرأة , بهذا
التعقيد , هو تحفة سينمائية ستجعل كل من يتابعها يغرق في التخمين و التساؤل من البداية
إلى النهاية
الفيلم ينتقل بخفة
بين العديد من التصنيفات , بل و ربما يتجاوزها نهائيا . فهو ميلودراما حينا .. و رومانسي
حينا آخر .. و غامض فينة ثالثة .. ثم يصبح قصة عن المؤامرات .. و لا يلبث أن ينتقل
إلى الخيال العلمي . إلا أن أكثر ما يثير الإعجاب هو كيف تمكن المخرج و الكاتب أمينابار
- ببراعة فائقة - من المزج بين كل هذا و الخروج بهذا الفيلم المتمكن : استعمل أساليب
السرد التقليدي . أسلوب الفلاش باك . أسلوب الأحلام . الأسلوب الواقعي . و لكن الطريقة
التي سلسل بها هذه الأساليب و ركبها فيها جعلتنا نشعر - نحن و بطل الرواية - بأننا
ننقض خيوط مؤامرة شديدة الأحكام . كلما مرت دقيقة أو ظهرت حقيقة إنتابنا شعور أنه حتى
مع اكتمال قطع الأحجية ما زالت هناك الكثير من الأسئلة ليس لها إجابة شافية .
دليلنا في متاهة
هذا الفيلم هو سيزار ( إدواردو نوريغا ) الشاب الوسيم الثري الأناني الذي يربأ بنفسه
أن يبيت أكثر من مرة مع نفس المرأة !! و عندما يخطأ صديقه باليّو ( فيل مارتينيز )
و يعرفه إلى صديقته الحالية صوفيا ( بينلوب كروز ) تبدأ المشاكل .... سيزار - الذي
أغرم بصوفيا و شعر بطعم الحب الحقيقي لأول مرة في حياته - يحاول أن يوقع صوفيا في حبائله
ليبعدها عن صديقه باليّو . صوفيا تبدو و كأنها وقعت تحت تأثير سيزار إلى أن تحدث المأساة
: نوريا ( نجوى نيميري ) - إحدى النساء التي قضى معهن سيزار ليلة من الليالي - تستولي
عليها الغيرة , و تستدرج سيزار إلى الركوب معها في سيارتها , تبدأ في الإسراع لتصل
إلى مرحلة تصعب فيها السيطرة على العربة ثم تقفز بالسيارة لتقتل نفسها و يصاب سيزار
معها بجروح خطيرة .
سيزار لم يمت . لكنه
دفع ثمن ذلك غاليا : وسامته اختفت تحت عدة جروح تركت وجهه مخيفا . و لكي لا ينفر منه
من حوله , عليه ارتداء قناع خالٍ من التعابير . عندما يلتقي صوفيا مرة أخرى تبدي قدرا
من الجمود و الجفاء تجاهه . على كلٍ , بعد أن يمضي سيزار ليلته مخمورا على قارعة الطريق
, يرى أن الأمور بدأت بالتحسن : صوفيا رجعت لطبيعتها المحبة و اللطيفة و أعادت علاقتها
به , الأطباء أعادوا إليه الأمل بتقنيّة جراحيّة جديدة تعيد له وسامته السابقة . إلا
أنه يبدأ في المرور بلحظات من التشويش و يثور لأتفه الأسباب مما يجعله يشكك بكل ما
يحيط به من مظاهر قد تكون خادعة .
. وأخيرا على سطح المبنى الشاهق حيث تهب الريح
والشمس بقسوة يدعو صوفيا التي تأتي بثوب أبيض خفيف وهي ترتجف من البرد يضمها للمرة
الأخيرة. يقرر خوض الحياة، ارتياد المغامرة الكبرى
مرة أخرى، يعتلي سور السطح الواطئ ينظر إلى الأسفل ويسبح في الهواء إلى الأسفل. الفيلم
مليء بالمنعطفات . إلا أنه عندما تستعيد الأحداث يبدو الفيلم منطقيا
باستطاعتك أن تصف
الفيلم كمجموعة من حالات الأزدواجيّة : الكوابيس إزاء الحقائق . الذكريات إزاء الواقع
. الجمال إزاء القبح . الجنون إزاء التعقل .. كل هذه العوامل يجب أن نضعها في الحسبان
عندما نريد أن نعرف حقيقة ما حدث لسيزار .
جوهر الفيلم يدور
حول موضوع واحد : الفجوة الواسعة بين الأدراكات الحسيّة و الواقع المرير . فعندما كان
سيزار وسيما في المظهر , كان قذرا في العمق . و لكن عندما تشوّه وجهه و شعر بالمهانة
لذلك و قرر أن يغير من شخصيته , عاكسته الظروف و قلبت له ظهر المجن ( هل حصل ذلك فعلا
؟) مع ذلك , و حتى في هذه المرحلة , ما زلنا في بداية التنقيب عن الحقيقة وسط هذا التعقيد
. و أميناربار يجبرنا على الخوض أكثر لاكتشاف الحقيقة
الفيلم يكشف عن مخرج صاحب اهتمام مميز بالجماليات،
الاهتمام الذي نلحظه عبر السرد المتجزئ عبر الأحلام الصريحة التي نميزها عن الحلم الكبير،
والواقع المفترض، الحوار الذي يعتمد على تكرير الجمل في مواضع مختلفة وبمعاني مختلفة،
وطبعا تقنيات التصوير وهي التي تطبع أعماله اللاحقة بنفس الروح، وتكرر فيها بشكل أساسي
حركة الكاميرا الدائرية، حول نقطة ينصب فيها الحدث وترافق هذه الحركة بشكل عام عقدة
درامية نلحظها من خلال تصاعد الموسيقى بشكل متناسق، اللعب بالإضاءة من خلال تدرجات
معينة. لكن الإنجاز الحقيقي هو قدرة ألمنبار على
تهميش الكادر بأكمله، ولنقل تشيئه أيا كانت محتوياته لصالح تركيز أكبر على الحدث حتى
وأن جرت أغلب المشاهد في مواقع مكشوفة، مثلا مشهد صوفيا وهي تأدي دور ممثلة ايمائية
في حديقة عامة، حيث تأخذ وقفة ما وتلتزم بالسكون طوال ساعات ووجهها ملون بالأبيض والأسود،
تغيم السماء يسقط المطر وسيزار بوجهه المشوه يحدق بالفتاة التي تركته بحزن. مشهد
الحديقة، أو الحلم الأول بحد ذاته يشكل مثلا رائعا حيث يستطيع ألمنبار من تركيز الطاقة
الجمالية للكادر وعكسها على حوار سيزار وصوفيا.
كما قلنا أن الفيلم
يحمل بين همومه، هم المشاعر غير المعنونة. يدخل المخرج إلى عالم المشاعر والرغبات
الدفينة، العالم الداخلي للإنسان، من خلال تشكيكه بالواقع تمجيده لعالم الأحلام، مذكرا
بالوقت ذاته على سلطة الإنسان على هذه الحديقة الغامضة. وبشكل ملتوي يشير إلمنبار إلى موضوع مدلل في السينما الأسبانية: الهوية. يلبس
البطل القناع لأن وجهه مشوه،سيخطأ الآخرين في التعرف عليه. إذا لبس القناع البارد لن يخطأوا أبدا لأنه
سيكون بلا هوية. يخلع القناع ويستمر وجهه بالتحول مشوها
طبيعيا مشوهان ولا يجد وجهه أبدا، ليس قبل أن يستيقظ من عالمه المصغر.
و بين رموز عديدة
يظهر رمز الجسد المجمد بعيدا هناك في أمريكا؟ ماذا تعنيه أمريكا لشاب أسباني؟
الفيلم الذي مع الكثير من الأفلام التي تبين كم بات الإنسان وحيدا،
فأنه يقول ذلك بنفس جميل، بإحكام نادر، وكلمات جديدة.
« الآخرون » :
وتقوم / نيكول كيدمان
/ في فيلم /اليخاندرو أمينابار / « الآخرون » انتاج 2001 بدور امرأة تُدعى ( غريس)
تعيش مع طفليها في جزيرة نائية في عزلة تامة عن العالم .
بعد ان يذهب زوجها
للحرب ، وتنتظر دون جدوى عودته ، وتمضي الاحداث طبيعية في بادىء الامر بعد ان تقبلت
/غريس/ واقع غياب الاب عن البيت.. لتنكب على تربية طفليها في القصر الذي يعود بناؤه
الى الحقبة الفيكتورية ، الا ان الامور لم تبق على طبيعتها خاصة بعد ان تعين /غريس/
ثلاث خادمات، ليختفين في ظروف غامضة من البيت ، بعد ذلك تخبرها ابنتها انها تشاهد وتتحدث
الى اشخاص غرباء ، لم ترهم من قبل .
وبالطبع لاتصدق الام
كلام ابنتها وتعتبره محض خيال طفولة ، بيد ان احداثاً غريبة تًجبر الام على تصديق ادعاءات
اولادها ، وتجعلها تدرك لاحقاً ان ارواحاً دخيلةً تسكن الدار ، ومن اجل ان تعرف /غريس/
من هم هؤلاء الغرباء ، ماذا يريدون من هذه العائلة كان عليها ان تتخلى عن واقعيتها
وتلجأ الى عالم ما وراء الطبيعة والخيال .
الفيلم هو من نوع
افلام الرعب والفنتازيا التي تعتمد على الاضطرابات النفسية والهواجس ، اذ يعتمد كثيراً
في بنائه الدرامي على سبر أغوار النفس البشرية وخوفها من المجهول ، ويثير الفيلم تساؤلات
في نفس المشاهد عمن يجب ان نثق ، وبماذا نصدق؟ ومن ماذا نخاف؟ .
اما المخرج /أليخاندور
أمينابار / فقدترك الكاميرا تتنقل بحرية داخل غرف القصر ، ولم يستخدم التكنولوجيا الحديثة
في تجسيد مشاهد الرعب ،بل اعتمد على الاضاءة ورهبة المكان واداء كيدمان المتميز والقصة
المخيفة.. لينقل المشاهد الى عالم الارواح والخوف من المجهول ، ويجعل هذا النوع من
الخوف كأنه واقعي حقيقي
"البحر من الداخل "
:
امينابار الذي سبق
وتعاطى مع الموت باسلوب قاتم من خلال فيلمه" الأخرون "مع نيكول كيدمان، يقدم
فيلما آخر عن الموت , ولكن في شكل مضيء وغارق بالنور. ولهذا السبب حتماً نجح
"البحر في الداخل "(The Sea
Inside) في انتزاع
كل من جائزتي "الاوسكار" و"الغولدن غلوب" كأفضل فيلم أجنبي .
على شفا الميلودراما
الملطّفة بالسخرية ودائرة القلق ومعانيه، يحيي أليخاندرو أمينابار مأساة واقعية حصلت
في اسبانيا أواخر الستينات وأثارت الرأي العام الإسباني في التسعينات حين طلب رجل تلك
المأساة الى السلطات القضائية منحه حقّ وضع حد لحياته [الموت الرحيم مثار جدال في العالم
كله الى اليوم] إثر نحو تسعة وعشرين عاماً أمضاها في فراشه مصاباً بشلل تام وانعدام
قدرة على تحريك كل جسده، إذ ارتطم رأسه بصخرة تحت الماء حين قذف بجسده في البحر مثل
ابطال الاولمپ. وعدّل أمينابار، كاتب السيناريو ايضاً، في الشخصية فجعل رجل فيلمه رامون
سامپيدرو [خافيير بارديم، باداء مذهل استحق عنه جوائز افضل ممثل في عدة مهرجانات سينمائية]
شاعراً مثقفاً وصاحب افكار عميقة خلاّقة اوحاها شلله وذا أفكار فلسفية ووجودية صادمة
وعميقة، كي يهب الشخصية مزيداً من القيمة، والشريط مزيداً من الابعاد الميتافيزيكية
حول الوجود وعبثيته وهشاشة الوضع الانساني عامة.
رامون الخمسوني الملازم
فراشه شخصية مركزية في "البحر في الداخل" تتحلق حولها شخوص عديدة من دون
ان تكسر عزلة رامون ووحدته ووحشته وقراره الإراديّ الحرّ بالموت ووضع حدّ لمعاناته
التي استطالت وجعلت منه طيف كائن حيّ - ميت. والحسّ الساخر سلاحه الوحيد لمواجهة حاله
العبثية والمأسوية، وللتعامل مع الآخرين، أقربين وأبعدين، رغم الحب والتعاطف والرعاية
من بعضهم، وفي مقدمهم عدد من ذويه، ما انفك مؤمناًً بالفكرة الأبلغ في الفيلم أن
"الحياة حقّ وليست واجباً ". معظم الذين أحبّوه والذين لم يحبّوه كما ينبغي
كانوا يلقون مشقّة في قبول قراره "الانتحاريّ" الاراديّ، غير مدركين عمق
ألمه. ، ويقين حدسه الذي افصح عنه صوب النهاية ان الحياة عدم قبل الولادة وعدم بعد
الموت، وأن اللاشيء ينتظر الإنسان.
رامون الذي نراه
في الفيلم يسكن في بيت أخيه، تعتني فيه خمس نساء في نفس الوقت، خمس نساء تحبه بشكل
متواز. الأمر الذي يسبب العديد من الإشكالات، من حالات الغيرة والمقالب الكوميدية التي
لا تخلو من تراجيدية. الحماة مانويلا (مانويلا ريبيرا) خادمة خرساء؛ المحامية يوليا
(بيلين رويدا)، التي تعاني هي الأخرى من مرض مميت، تريد مساعدته، لنشر كتاب "رسائل
من الجحيم"، يحوي جميع رسائله وطلباته وإحتجاجاته؛ جينه (كلارا سيغورا) التي تبدو
ممثلة قوية لـ"الجمعيات التي تبارك الموت الطوعي: الإنتحار"؛ وعاملة المصنع
روزا (لولا دوينياس) التي تجد في رامون رجل الأحلام الذي كانت تبحث عنه طوال حياتها،
والذي تريد أن تمنحه الرغبة بأن يعيش.
. وحدها نافذة غرفته هي بطاقة سفره الى موانئ
البحر القريب منه. البحر الذي اعطاه كثيراً ثم عاد وسلبه كل شيء. ورغم انه محاط باسرته
واصدقائه، الا ان امل رامون الوحيد هو النجاح في انهاء حياته بيده وبكرامة
"عندما يقترب الموت، تُسحب الستائر في البلدان.
فقط في إسبانيا تُفتح الستائر على سعتها"، ذلك ما كتبه ذات مرة شاعر الموت، فديريكو
غارسيا لوركا. في وسط فيلم "البحر في الداخل "، وفي مشهد معبر عن الرغبة
العارمة بالخلاص، يفتح أمينابار، شباك الغرفة على مصراعيه أمام بطله اليائس من الحياة،
والمتشوق للموت.
رامون تتملكه رغبة
واحدة، عاش معها متوحداً كل سنوات العذاب هذه: أن يموت بحرية، على طريقته. رامون هذا،
نراه في المشهد المذكور، يلقي فجأة وبقوة شراشف الفراش ويقف بتماسك هذه المرة، وكأنه
مقبل على فعل عظيم، يعيد له شخصيته! لقطة مباغتة بالفعل، تجعلنا نحن الجالسين في صالة
السينما، نتساءل: ترى، هل كانت قصة مرضه غير حقيقية، هل هناك خديعة في الأمر، أم ان
ما نراه هو معجزة تتحقق: لحظة شفاء مفاجئة؟ رامون يلقي غطاء الفراش إلى جانب، يبدأ
بالمسير. وما أن يصل الى شباك غرفته الواقعة في الدورالعلوي، حتى يرمي بنفسه. وعندما
يسقط جسده في البحر، لا يسقط إلى العمق، إنما يظل طافياً على السطح، بينما نسمع في
العمق، موسيقاه المفضلة، الموسيقى التي صاحبت ألمه وشكواه كل هذه السنوات: قطعة الموسيقار
الإيطالي بوتشيني: Nessun dorma لست نائماً"، والتي سترافقه في الرحلة
ـ الحلم هذه المرة، عبر تلال ومرتفعات غاليسيا حتى الشاطئ، حيث ينتهي رامون في أحضان
إمرأة أحلامه.
الرحلة الحلمية اليائسة،
الجميلة، المتخيلة، بعد ليلة مليئة بالأرق، تبرز من بين كل تلك الصور التي تعبر عن
هواجس رامون وأحلامه، تستحضر معها ذلك الشعور الملحاح الذي يثقل عليه، توقه للمسة حب
رقيقة وحرية جسدية، يعرفها من الذكريات فقط. وهي الصورة الوحيدة المغرية بالنسبة إليه،
بمواجهة الذكرى الحزينة، لذلك اليوم المشؤوم، (نراها بالتصوير البطيء، وكأنها تعبير
عن ألم رامون البطيء)، عندما كان شاباً في سن الخامسة والعشرين، يقفز من قمة صخرة إلى
البحر، بالذات في المكان الذي لم يكن فيه الماء عميقاً، ليكسر رقبته وعموده الفقري.
فقط عندما يرى المشاهد هذه القفزة الحلم يعرف لماذا كان الشلل الذي كبله، وجعل جسده
يفقد كل إحساس، بالنسبة إليه بمثابة "الجحيم"، مثلما يتفهم لماذا يريد رامون
الموت، ولماذا يبحث عن احد يساعده على تحقيق رغبته تلك!
في رابع افلامه ،
يعود المخرج الاسباني الى تقديم مقاربة للموت "تسطع" من زاوية الحياة والطبيعية
والحياة اليومية. فرغم الموضوع المعقد نجح امينابار في اعداد فيلم متألق ببساطته المضيئة،
يكرم من خلاله الحزم والكرامة والحرية الانسانية بنفس مأسوي وشاعري في الوقت عينه سيهزنا
ويمزقنا من الاعماق. واللافت ايضاً في الفيلم انه رغم مأسويته، هو عابق بالحيوية والطاقة
والرومانسية ويدافع عن الحرية الفردية والكرامة الشخصية ويرسم ملامح من اسبانيا البلاد
المفتوحة على الضوء والدفء والبحر والقدر والحياة. انه ببساطة فيلم عن الموت ولكنه
يعطينا رغبة كبيرة في عيش الحياة. كل ذلك بفضل الممثل الاستثنائي خافيير بارديم ، فالفيلم
يلتحم بالممثل الرئيسي فيصبح من الصعب فصلهما. فيرتكز تماماً على "كاهل"
خافيير بارديم، أو بالأحرى على وجهه ولسانه ونظراته التي وحدها تتحرك وتعبر بينما جسده
مسمّر على فراش طوال ثلاثين عاماً واللافت ان بارديم تمكن من ان يتحوّل روح الفيلم،.
حضوره الطاغي وتأملاته الفلسفية وغناه الداخلي وقدرته على سحر الآخرين بذكائه المتوقد
وطرافته الساخرة وخطابه المدهش بطبيعته حول الحب والحياة والموت والجنس، كلها امور
حوّلته رجلاً استثنائياً. استثنائي لأنه سيمنحنا الشعور بأنه يرتجل دائماً بينما هو
يلتزم السيناريو المكتوب. والى جانب خافيير بارديم مجموعة من الممثلين المدهشين كلهم
في ادوارهم وخصوصاً يلين رويدا ولولا رونياس.
فيلمه " أغورا
" فيلم جرى تصوير مشاهد منه في مدينا، مالطا حيث شيدت ديكورات تمثل مدينة الإسكندرية
القديمة بفنارها ومكتبتها. وهو من إنتاج فرناندو بوفايرا ومن توزيع فوكس فيتشرز.
ويتطرق امينابار
الى تلك الحقبة المتوترة حيث انتفى توازن القوى بين الطوائف الدينية من خلال سرد سيرة
عالمة الفلك والرياضيات والفيلسوفة هيباتيا. والتي اعتبرت "أما روحية" للعلوم
الطبيعية الحديثة، ورمزا للحكمة
وهيباتيا عالمة فلك
ايضا وضعتها ابحاثها حول النظام الشمسي في مواجهة مع الكنيسة في العام391 ميلادية ،
قبل الف سنة على اكتشافات غاليليوس. وتؤدي الممثلة البريطانية رايتشل وايز دور هيباتيا
المرأة الوحيدة وسط عالم ذكوري، التي تتعرض للاضطهاد لان ابحاثها العلمية تشكك في الايمان
المسيحي.
ينتهي الفيلم بالقبض
على هيباتيا وتجريدها من ملابسها استعدادا لحرقها في الساحة، ورغم أن كتب التاريخ تذكر
أن هيباتيا قتلت بوحشية وتم التمثيل بجثتها من تمزيق للجسد وحرق للأشلاء، إلا أن الفيلم
لا يصور النهاية الحقيقية تلك، حيث يصور مشهد نهاية الفيلم قيام عبدها السابق دافوس
بحضنها بقوة ثم خنقها، مجنبا إياها مصيرها البشع المحتوم.
ويأتي فيلم "
الانحدار " بعد توقف دام ست سنوات عن آخر فيلم أخرجه أمنابار «أغورا» سنة
2009، حيث حصل للمرة التاسعة على جائزة غويا .
في فيلمه "الانحدار"
نحن أمام حكاية المخبر بروس "إيثان هوك" الذي يكلف في عام 1995 بالذهاب إلى
ولاية مينيسوتا للتحقيق في قضية أنجيلا "إيما واتسون" التي تتهم والدها جون
غري "دايفيد دينسيك" بارتكاب جريمة لا توصف، مع أنها لا تتذكر أي شيء من
تلك الجريمة، مما يجعل المخبر بروس يستعين بطبيب نفسي يعمل على مساعدتها على استعادة
ذاكرتها . لندخل إلى عالم مرعب يمتزج فيه النفسي بالشيطاني والواقعي بالغرائبي، ويكشف
لنا الأقنعة التي تحبك مؤامرة شريرة. ولتكشف القناع عن أسرار جريمة تهدد الأمن القومي. يعتمد أمنابار في بناء شخصيات عالمه السردي
على الغموض والمفاجأة في قلب المواقف بالاستناد إلى التحليل النفسي .