محمد عبيدو
السينمائي الايطالي جيلو بونتيكورفو الذي أمضى حياته في تحقيق أفلام لا تخلو من البُعد <السياسي النضالي>، الذي غلّفه بجانب إنساني بحت. ذلك أن اختياره المواضيع يمزج، برهافة بصرية وحساسية فنية واضحتين، البؤس الفردي بالمناخات السياسية والاجتماعية التي أفضت إلى هذا البؤس. وسوف يظل خالدا في تاريخ السينما العالمية بفضل فيلمه “معركة الجزائر” الذي ظل عرضه محظورا في فرنسا قرابة الاربعين عاما بسبب ما اثاره من جدل. عُرف “جيلو بونتيكورفو” كواحد من أكبر المخرجين الايطاليين لفترة ما بعد الحرب. لقد رشح مرتين لجائزة الاوسكار، وهو اب فيلم “معركة الجزائر” الشهير. كان جيلو بونتيكورفو، السينمائي الملتزم، قد صرح العام 1983 لصحيفة “الغارديان” قائلا:”لست ثوريا عنيداً، بل انا، ببساطة، رجل يساري ، “. ولد جيلو بونتيكورفو العام 1919 في مدينة “بيز” ودرس الكيمياء في البداية. وفي اثناء الحرب العالمية الثانية عمل صحافيا ومراسلا للحزب الشيوعي الايطالي. وما ان تم ابرام السلم حتى أصبح مراسلا من باريس للعديد من الصحف الايطالية. وإذا به يشاهد فيلم “بيزا” (السلام) للمخرج روسيليني فترك على الفور مهنته في الصحافة واشترى كاميرا وشرع في تصوير افلام وثائقية قصيرة.
في العام 1956 اخرج فيلمه “جيوفانا” الذي يروي قصة اضراب النساء في مصنع للنسيج. وفي السنة الموالية اخرج جيلو بونتيكورفو اول افلامه الطويلة “الطريق الازرق الكبير”. هذا الفيلم الذي اقتبس عن قصة للكاتب فانكو سوليناس، وهو كاتب سيناريوهاته المفضل، يصف معاناة قرية من الصيادين، نرى فيها على الخصوص الممثل الشهير ايف مونتون وهو يكابد الحياة حتى يعيل عائلته. وفي العام 1959 جاء فيلم “كابو” عن النازية في ذروة عربدتها في أوروبا
وسرعان ما فكر جيلو بونتيكورفو الذي تأثر بحرب الجزائر ايما تأثر، في ان يخرج فيلما مطولا عن الصراع، لكن هذا الفيلم لم ير النور الا بعد مرور ثلاث سنوات على انتهاء الحرب عندما اقترح عليه ياسف سعدي أحد القادة العسكريين في جبهة التحرير الوطني بالجزائر العاصمة، فكرة انجاز فيلم عن معركة الجزائر استوحى احداثها من ذكرياته الخاصة عن المعارك.
“معركة الجزائر” هذا الفيلم الذي صوره المخرج بممثلين غير محترفين (باستثناء “جون مارتين” ، في دور “ماثيو” على رأس المظليين الفرنسيين) يتناول مسألة الصراع من اجل السيطرة على حي القصبة العتيق في قلب الجزائر العاصمة ، العام 1957 ، ما بين المظليين الفرنسيين ورجال جبهة التحرير الوطني ، مع استعمال التعذيب من جهة ، والعمليات العسكرية العمياء من جهة اخرى. وليس في الفيلم قصة مخترعة أو مؤلفة من الخيال. وإنما يصوغ السيناريو – في أسلوب نصف تسجيلي – تلك الأحداث الحقيقية للثورة الجزائرية الشاملة على الاستعمار الفرنسي، الذي تمكن من البلاد قرابة مائة وثلاثين عاما (1830 – 1961) حتى تمكن الشعب – بقيادة جبهة التحرير الوطني – من طرده واقتلاع جذوره من أرض الوطن. وقد وضعت الدولة تحت إمرة المخرج مدينة الجزائر كلها – بأحيائها وشوارعها وميادينها – لكي تكون مسرحا لما يخرجه من أحداث يعيد بها بناء التاريخ القريب للثورة الجزائرية.. فجاء الفيلم قطعة فنية رائعة، ووثيقة تسجيلية من صلب الواقع… هذا الفيلم الذي مُنع في فرنسا في البداية عُرض في النهاية العام 1971، لم يعد للظهور من جديد في فرنسا الا العام 2004 اي بعد مرور اربعين عاما على اخراجه. بعد “معركة الجزائر” العام 1965 عاد المخرج جيلو بونتيكورفو العام 1968 بفيلم “كيمادا” عن استعباد السود وسوقهم إلى الموت في منتصف القرن التاسع عشر، وكان هذه المرة في جزر الانتيل. وسوف يظل تاريخ السينما يذكر تألق الممثل القدير مارلون براندو على بلاتو التصوير. وقد صور جيلو بونتيكورفو آخر افلامه الطويلة العام 1979، وهو فيلم “اوغرو” الذي يتناول ارهاب الجنرال فرانكو، ونهاية دكتاتورية.يبقى جيلو بونتيكوروفو الذي توفي بروما عن عمر يناهز السادسة والثمانين أحد أبرز سينمائيي جيله، في إيطاليا وخارجها، بسبب هذا النمط المتداخل بين التوثيقي والمتخيّل في أفلامه التي ألغت الحدّ الفاصل بين هذين النوعين.. من هنا، يُمكن القول أيضاً أن إحدى ميزات بونتيكورفو كامنة في جعل أفلامه تستوعب التلاقح الفني بين النوعين، بتقديمها القصّة الحقيقية (الموثّقة بموضوعية وسوية) في إطار متخيّل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق