وُصف المخرج الاسباني
كارلوس ساورا ذات مرة بأنه عاشق الاندلس وعالمها الذي مازال يحمل حنين الروح العربية
...ربما يكون هذا الوصف صحيحاً، فهذا الفنان الذي ولد عام 1932 كانت ترشح كاميرته بمشاهد
اندلسية
يعتبر كارلوس الوارث
الحقيقي للمخرج السينمائي الكبير لويس بونويل، الذي أخرج في فرنسا والمكسيك غالبية
افلامه، إلا انه يبقى احد رموز السينما العالمية التي تنتمي للثقافة الاسبانية أصلاً
، مثله في ذلك مثل مواطنه العبقري بيكاسو وصديقه وزميل اعماله سلفادور دالي .ولقد أهدى
ساورا فيلمه { زيت النعناع } الذي اخرجه عام 1967، الى لويس بونويل وصنع عدة افلام
تحت تأثيره ، لكنه نوع من التأثير الايجابي الذي كان انطلاقة الى صوت متفرد وآفاق جديدة
لفنان مبدع .
بدأ ساورا حياته مصوراً فوتوغرافياً ناجحاً ،
ولافتاً الانظار ، إلا ان تشجيع شقيقه له دفعه للالتحاق بمعهد السينما بمدريد ، حيث
غدا ، وفي فترة قصيرة نسبياً من اهم مخرجي اسبانيا عبر تاريخها ، واحد ابرز مخرجي اسبانيا
الذين استطاعوا الخروج باقتراحات ابداعية وثقافية اصيلة ، بعيداً عن تأثيرات السينما
الهوليوودية . سينما كارلوس ساورا ذات تأثيرات تعبيرية تمتلك فرادتها واستعارتها الخاصة
بالمعالجة رغم اتكائها على ارض تبدو قديمة من الروح الاسبانية تغلفها ضباب وعتمة وألغاز
الحياة والموت، وكل ما يتكىء على الصراع الذاتي المحاط بالصمت، وعذوبة الموسيقى الاسبانية
(الفلامنجو) القادمة من ابداعات الغجر وتطلعاتهم الى الحرية والانعتاق من قيود واغلال
الواقع في افلام تنهض على ارض صلبة من الاسنادات والمراجع السينمائية في محاكاتها لمتفرج
لا يرضى الا بالفرادة والدهشة لانماط مختلفة عما اعتادت السينما العالمية ان تقدمه
من معالجات سطحية في انتاجات مبهرة فارغة المضمون والاشارات وتفقد الرؤية الخلاقة والابداع
الاستثنائي.
انه واحد من الكبار
المختلفين عن السائد والخارجين عليه ، والساعين لتشكيل ملامح سينمائية خاصة نابعة من
خصوصيات بلدانهم .
بدأ ساورا عالمه
السينمائي اواخر الخمسينيات ، متأثراً بالواقعيين الايطاليين الجدد الذين تعرف عليهم
اثناء دراسته ، وبدا حضورهم واضحاً في فيلمه الاول } الصعاليك{ 1959 ، متجهاً فيه نحو
شوارع مدريد وضواحيها الفقيرة ، وملتقطاً مجموعة من الممثلين غير المحترفين، ليقدم
من خلالهم قصة شباب يعيش على هامش الحياة يسرق كي يحيا ، ويفشل حين يود ان يتجاوز واقعه
، كما فشل الفيلم ذاته في اقتحام عالم السينما التجارية المعتمد على افلام الصالونات
المترفة ، والديكورات الورقية الضخمة. وينتظر ساورا خمس سنوات ، حتى يقدم فيلمه الروائي
الثاني ( البكاء من أجل لص) 1964، وهو صورة بيوغرافية للص اندلسي يدعى خوسيه ماريا،
ثم يلتقي في العام التالي بالمنتج إلياس كريخيتا ويقدم معه فيلم ( الصيد )1965،الذي
نال جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي ليسجل بداية سلسلة من تكريم المهرجانات
له وترشيحات الأوسكار التي ما زال يحصدها حتى الآن., وفيه يوجه الفيلم ادانة مميزة
للروح الاسبانية الفاشية التي حكمت ذات يوم : ثلاثة اصدقاء في منتصف العمر ومعهم كل
ما يلزمهم ليكون الصيد ناجحاً ، بنادقهم ، وتبدأ حفلة الصيد التي تتصاعد دمويتها بتسارع
مرعب. من بين ثرثراتهم ، التي تبدو كمنولوج جماعي طويل ، يطل الشعور بالاسف والمرارة
والغيرة ، لكن المشاعر في الحقيقة اعمق من ذلك ، فهي غير محددة .ومع تقدم الفيلم يصبح
الشعور بالذنب هو المسيطر اكثر فأكثر ، فالمكان الذي يختاره ساورا ساحة لصيدهم هو ساحة
واحدة من معارك الحرب الاهلية الاسبانية ، التي يبدو أنهم كانوا من خاضوها ، وما زال
الموقع يحتوي على بعض بقايا الجثث ؟ ويظهر اثر الحرب امامهم قائماً لان نصف الارانب
التي هناك كانت مريضة ، وهكذا كلما ازدادت حرارة الشمس اصبح تحديق الكاميرا فيهم اكثر
شراسة بحيث يكاد يحرق جلودهم وهم يتقلبون في ماضيهم .
ويشير دليل الافلام
لعام 1997 الصادر عن دار بنغوين الى ان التلميحات الجنسية المحمومة التي يحفل بها
( الصيد ) تحيل الى القمع السياسي ، ثم ما تلبث ان تنقلب الى حالات عنف وشعور ينذر
بأنهم ذاهبون لتدمير ذواتهم .
تظل هذه الاحاسيس
تتصاعد في الداخل الى ان تنفجر في لحظة غير عادية فتستدير بنادقهم بعيداً عن الارانب
المذعورة باتجاه انفسهم ويبدؤون بإطلاق الرصاص على بعضهم بعضاً ، حيث يموت الجميع
. ويمكن لمن يشاهد الفيلم ، رغم مرور كل هذه السنوات على انتاجه ، ان يلحظ مدى براعة
ساورا، ومدى شراسته وهو يقدم فيلماً صارماً يحاول برؤياه اعادة ترتيب الماضي الاسباني
.
ثم يقدم ساورا ثلاثية
مخصصة لتحليل العلاقة الملتبسة والاشكالية بين الرجل والمرأة ، في ظل المناخ البورجوازي
، وهي ( شراب النعناع المثلج) 1967، و( الاجهاد يكون ثلاثة ...ثلاثة ) 1968، ثم ( الحجر)
1969، وتتميز هذه الثلاثية بظهور كاتب السيناريو المتميز رافائيل اثكونا والذي سيتعاون
لزمن طويل مع المخرج في تقديم ابرز اعماله ، وايضاً بظهور جيرالدين شابلن كممثلة لكل
افلام الفترة التي كانت زوجة فيها لساورا ، بل ودخولها كمشاركة في كتابة السيناريو
، لأول وآخر مرة في حياتها في فيلم (الحجر ).
وكانت افلام ساورا
تعكس آثار اشكال القمع الذي مارسه نظام فرانكو على مجريات الحياة العامة غير السياسية
والفكرة الاساسية المشتركة كانت حول القمع الجنسي ، وكيف استطاع ان يتطور الى اشكال
سلوكية غير طبيعية ومدماة .
بعد ذلك اخذت افلام
ساورا تنحو باتجاه الكوميديا السوداء حيث تختلط الحقيقة بالخيال .
ومع بداية السبعينيات
، يحقق ساورا ثلاثية اخرى تقدم تحتليلاً عميقاً لآليات السلطة لذات الشرائح البورجوازية
، التي تزداد رجعية وتخلفاً وانغلاقاً على الذات ، مع مرور الايام ، وتحتوي الثلاثية
على افلام( حديقة الملذات ) 1970، و} آنا والذئاب { 1972، ثم ( ابنة العم انجليكا)
1973 الذي فاز عنه بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان } كان{. ويروي قصّة "لويس"، رجل في منتصف
العمر يذهب من برشلونة الى سيغوفيا لدفن والدته. فتستقبله عمّته في منزلها. يلتقي حبيبته
السابقة وابنة عمّه أنجليكا، فيستعيدان سوياً ذكرياتهما خلال الحرب الأهيلية الإسبانية.
وفي اواخر ايام فرانكو
يبدأ ساورا في تقديم ثلاثية جديدة له ، يعتمد فيها على سيناريو يكتبه وحده ، فينجز
فيلم ( نداء الغربان) عن عالم الطفولة ، والذي حصل على جائزة التحكيم الخاصة في كان
1976، و( إليسا... ياحياتي ) 1977 عن استغراق الآباء في ذكريات لامجدية بعيداً عن ابنائهم
و( العيون المعصوبة) 1978، عن التعذيب الممارس على الانسان ، وكيف يقتل الحب في اعماقه
.
بعد موت فرانكو عام
1975أصبح ساورا حراً في التعامل مع مواضيع كانت تعتبر سابقاً من المحرمات، ففي عام
1980 قدم فيلم ( بسرعة ... بسرعة ) الذي حاز على جائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين...
وعالج فيه موضوع حياة الشوارع ليافعي مدينة مدريد واشار الى عودة ساورا للمواضيع التي
عالجها في فيلمه الاول. ولتحقيق أكبر قدر من الواقعية اشرك ساورا معه في كتابة النص
اربعة من رجال العصابات في الشوارع ، ثم فيلم ( الساعات الحلوة ) 1981 الذي بدا كمحصلة
نهائية لرؤيته عبر مجموعة افلامه السابقة وكمحاولة لإعادة بناء افضل اللحظات الماضية
على ارضية الواقع الآتي . وبعده يتجه ساورا الى عالم الموسيقا والمسرح والرقص، فيقدم
ثلاثيته الرابعة والأكثر شهرة عالمياً : ( عرس الدم ) 1981، عن نص مسرحية غارسيا لوركا
المعروفة عن نص أوبرا جورج بيزيه المعد عن رواية بروسيير ميريميه، و (الحب المسحور)
1986، و عن باليه بالاسم ذاته للموسيقار الشهير مانويل دي فايا والافلام الثلاثة تدور
في اجواء ( الفلامنكو) والبروفات المسرحية ، حيث يختلط فيها اللعب والجد ، والتمثيل
الحقيقي ، ويصمم رقصاتها كلها ويشارك فيها المصمم والراقص الاشهر انطونيو غاديس.
في فيلم ( كارمن)
يستفيد ساورا من خط الموضوع العام لكارمن من ميريميه وهو حب دون خوسيه لكارمن الغجرية
وتخليه عن كل شيء ليتبع هذه المرأة المتقلبة المزاج، ولينتهي هذا التعلق بالمرأة التي
لاتمتلك نهاية مأساوية ، ويجعل ذلك معاصراً ومقنعاً الى اقصى درجات الاقناع ...
في الفيلم نرى مخرجاً
حقاً يبحث وسط المئات من الفتيات عن فتاة تجسد دور كارمن في الباليه الذي سوف يخرجه
ورغم أن أمامه الحسان كثيرات ، إلا ان أياً منهن لاتقنعه . ويستعيد في مونولوجه الداخلي
وصف ميريميه لجمال كارمن الوحشي الغريب فهو حسب تعبير ميريميه ليس الجمال بالمقاييس
المتعارف عليها :( كي تكون المرأة جميلة يجب ان تنطبق كل صفة من صفات الجمال العشر
على ثلاثة اعضاء من جسدها ، فمن السواء العينان والرمشان والحاجبان ومن الرفع والدقة
الاصابع والشفاه والشعر ... الخ ) فهي ( ذات عينين حوراوين لكنهما مرسومتان بروعة وشفتين
غليظتين لكنهما مشكلتان بجمال ، وشعر اسود يعطي لمعة زرقاء كجناح غراب ... الخ ) وفي
مشهد راقص وبالمصادفة البحتة، واثناء التدريب تدخل فتاة تتمتع بأكثر مما تتمتع به الاخريات
، وعينا المخرج تبهران بها ولا نلبث نحن فيما بعد ، ان ننظر اليها النظرة نفسها .
ويعتمد ساورا ان
يقدمها لنا في لقطات ثابتة ، وهي بدون ملابس الرقص ، انها لاتشبه كارمن ، ولكنها المرأة
التي تخيلها لنفسه الغريب، ان كارمن التي صورها ميريميه لم تكن امرأة جميلة بقدر ما
تتمتع بأنوثة وسحر .
ولورا ديلدل التي
ادت الشخصية هنا ، هي امرأة مشابهة ، وقد قالت يوم ان انتهت من هذا الدور الذي كان
أول اعمالها : ( كانت كارمن قد حبستني داخل اطارها ، اما الآن فأنا امرأة حرة افعل
ما يحلو لي عدا عندما اكون عاشقة فكل شيء يتغير ).
وفي قصة فيلم ساورا
( الحب المسحور ) تحتفل عائلتان في مخيم غجري بالاتفاق على زواج ولديهما الفتيان كانديلا
وخوسيه وفق تقاليد قبيلتهما الغجرية ، وبعد مرور الزمن تتحقق امنية الابوين ، ولكن
ليس بدون ترك جروح عميقة في قلب كارميلو الذي كان دائماً عاشقاً كانديلا . يتزوج كانديلا
وخوسيه ولكن خوسيه ظل يلاحق لوثيا ، خلال احتفال بعيد الميلاد في مخيم غجري كان خوسيه
يفتش ،عن لوثيا تاركاً كانديلا فتحصل مشاجرة يطعن فيها خوسيه حتى الموت ، ويقتاد كارميلو
الى السجن متهماً بالجريمة ظلماً ،بعد اربع سنوات يعود كارميلو على أمل الحصول على
كانديلا مصرحاً لها بحبه ، ولكنها لم تتمكن من مبادلته ذلك بسبب الشبح القائم بينهما
، يلتجىء المحبان الى تعويذات العمة روزاريو ساحرة القرية ، وعلى ضوء القمر يحتفل
( برقصة النار ) التي تطرد الارواح ، ولكن تفشل التعويذة فيضطرون الى اللجوء مرة أخرى
الى الساحرة والحل الوحيد كما يبدو هو التضحية بلوثيا ، ويقنعها كانديلا وخوسيه بأن
تريهم شبح خوسيه وإثر رقصة عاطفية بين المحبين الأربعة ، تختفي لوثيا مع خوسيه في الليل
ويتحرر أخيراً كانديلا وكارميلو.
قبل ان يفرغ ساورا
من تقديم رؤيته الجديدة الكاملة في الثلاثية الموسيقية المشار اليها قدم عام 1984 فيلمه
(الارجل الخشبية) ، عائداً به إلى العالم الحميمي القديم، دون ان يترك العالم المسرحي
والموسيقي لمرحلته الجديدة غير انه فجأة يغير المرحلة بأكملها ، ليقدم فيلمه الضخم
(الدورادو) 1987، الذي يدور حول اخفاق حملة البحث عن منطقة الدورادو ، يوتوبيا الذهب
المفقود في امريكا. ثم ينهي ساورا الثمانينيات بفيلمه (الليلة الظلماء )1988، ويدور
حول شخصية الراهب الشاعر خوان دي لاكروث، ويفتتح التسعينيات بفيلمه المتميز ( آه
..كارميلا ) الذي
يروي قصة المغنيَيْن المتجوّلين بولينو وكارميلا اللذين يرغبان في دخول الأراضي التابعة
للجمهوريين أثناء الحرب الأهلية، لكن جنود فرانكو سيعتقلونهما. ثم يقدم فيلمه التسجيلي
( ماراثون) 1992 عن سباق الماراثون داخل الدورة 25 الاوليمبية، التي عقدت في برشلونة
. ثم فيلمه ( اطلق النار )1993، وهو اول فيلم بوليسي في حياة ساورا السينمائية ، معد
عن قصة الايطالي جورجيو سيربانينكو ويدور حول لاعبة سيرك ايطالية ، تتعرض للاعتداء
الوحشي عليها ، خلال عروض السيرك بمدريد ، فتقوم بالانتقام ممن اعتدى عليها ، وتموت
محاصرة من الشرطة في بيت ريفي. في عام 1996، يقدم فيلمه ( تاكسي ) عن واقعة عنف حصلت
بالفعل في الواقع .وفيلم ( باخاريكو ) 1996 ثم قدم ساورا فيلمه ( تانغو ) الذي رشح
لجائزة اوسكار افضل فيلم اجنبي لعام 1999، في هذا الفيلم الذي يبدو تتويجاً فنياً غير
عادي للمخرج الكبير ساورا تصعيد متقن لكل اساليبه التي استخدمها من قبل وخصوصاً في
افلامه : كارمن ، الحب المسحور وعرس الدم .
كل رموز ساورا تحضر
في تانغو : الموسيقى رافعة العمل ومداه، الراقصة الاولى والراقصة الثانية المنافسة
حكاية حب عاثرة خارج الخشبة التي يتم العمل عليها ، وملجأ للحكاية في علاقة حب مع الراقص
الاول او المخرج ، ثم قبل ذلك كله التمرينات او ( مجمل البروفات ) التي تشكل في النهاية
العمل الفني او الفيلم .
افلام ساورا هذه
نمط مختلف عما تعودت السينما ان تقدمه ، انها مشغولة بالمساحة الفنية والفكرية والزمنية
السابقة للفيلم في حالاته العادية ، اذ يرينا كيف نصنع عملاً فنياً .وتشكل لحظة عمل
الفيلم هذه اعمق نقطة فيه ، ففي حين تأتي البنية التقليدية للافلام عموماً لترينا النسخة
الاخيرة والاجود ، تجيء افلام ساورا لترينا عثرات ما قبل الانجاز، دهاليزه عذابات المشاركين
فيه ، خصوصياتهم ، هواجسهم الانسانية والفنية ، والطريقة القاسية التي يتشكل فيها العالم
على الخشبة ، لاتلك التي نشاهده فيها جاهزاً ومكتملاً الى حد عدم حاجته لأي رتوش
.
العمل الفني لديه
هو في مرحلة تكونه خاصة في هذه الثلاثية التي يعززها بتانغو، لتغدو رباعية .
فيلم كارلوس ساورا
هنا ليس عملاً فنياً ،بل هو ممارسة للفن بما تعنيه من ممارسة للحياة ، وفي ذلك نبل
كبير ، ولا يقف عمل ساورا وفلسفته عند حد البروفة والمشاهد ، بل يذهب ، اعمق نحو الفنان
، الانسان فالتقاطع الذي يتم مع الدور الذي يؤدى ويمكننا ان نلاحظ شيئاً نادراً هنا
يتمثل في ان اسماء شخصياته الفنية هي الاسماء الحقيقية الاولى لممثليه وممثلاته ، وربما
تكمن هنا فلسفة هذا المخرج ومنظوره للفن والحياة باعتبارهما شيئاً واحداً لا يمكن الفصل
بينهما .
جملتان اساسيتان
تشكلان مفتاح تأمل فيلم(تانغو) الاولى تفتح باب التعامل الفني للمخرج مع عاداته في
لحظة انصهار ابطاله مع ما يقومون به. وهو بينهم، وهي ترينا فلسفته في التعامل مع اللون
والضوء والكيفية التي رأيناهما بها في الفيلم، والثانية هي تعامل الكائن مع ماضيه الخاص
ومع سياق هذا الماضي في بعديه الخاص للغاية والعام.
تقول الاولى: اللون
هو دلالة سفر بطل العمل للماضي ، والضوء والظلام هما وسيلة الانتقال ما بين عالمه الخارجي
وعالمه الداخلي.
أما الثانية فهي
تلك التي يقولها بطل العمل وهو يستعين بقول للكاتب الارجنتيني بورخيس: الماضي هو الشيء
الوحيد الذي لا يمكن تدميره، اذ انه عاجلاً ام آجلاً سيظهر.
واذا كان ساورا في
فيلمه يلعب على توسيع حدود المكان بالرؤيا فإنه يعمل كثيراً على اللون الذي يلعب دوراً
غير عادي في الفيلم وجمالياته، كما يعمل على ايجاد صيغ فنية نادرة على المستوى السينمائي
حين يركب ثلاث طبقات من المشاهد فوق بعضها في مشهد واحد ليشير الى ثلاثة ازمنة او حالات
متصارعة كل منها يشكل النتيجة لسابقته. كما ان استخدامه لمقاطع من افلام قديمة ومحاولة
الاستعانة ببعض اعمال الفنان التشكيلي الاسباني غويا، بل واعادة تصوير بعض اللوحات،
على تقديمها حية على خشبة المسرح ذلك كله دليل على العلاقة الوثيقة بين التاريخ الخاص
والتاريخ العام، حيث يظهر هذا التاريخ على المستويين، المستوى الاول: علاقة زمن المسرحية
التي تقوم عليها احداث الفيلم، بسياقها العام المتمثل في الهجرات والمذابح، والقتل
والاغتصاب كظلال الفاشية السوداء. وفي المستوى الثاني علاقة تاريخ اللحظة الراهنة،
لحظة العمل للمخرج بماضيه وكيف يضحي عمله جزءاً من السياق العام لما عاشه ويعيشه ويطحنه.
ويتقاطع المستويان في نقطة دفاعه كفنان عن فكرته امام المنتج وبعض العاملين معه .
ثم يقدم لنا عالم
ابرز رموز الفن الاسباني، وهو الفنان التشكيلي العالمي فرانشيسكو دي غويا في فيلم بعنوان/غويا
في بورديوس/ 1999 وقام بتجسيد شخصيته الممثل الشهير فرانشيسكو رابال. و يتناول هذا
الفيلم السنوات الاخيرة من حياة غويا التي قضاها بمدينة بوردو الفرنسية بعيدا عن وطنه
و شعبه الذي كان يعاني من ويلات الفقر و الجهل و الاستبداد. وبكثير من الشاعرية والجمال
البصري و باسلوب جديد ادمج فيه المخرج في تناسق بين جمالية و سحر السينما و عمق و غموض
الابداع التشكيلي طوقت الكاميرا لحظات مصيرية من حياة هذا الرسام الذي جسد في لوحات
خالدة جانبا من حياة عصره و الام الناس و معانات شعبه إلى جانب مشاهد من الحب و الجمال
من خلال علاقته الحميمة بالدوقة دي البا التي استولت على قلبه و ملكت كل حواسه حيث
بقي حبها حيا إلى قلبه إلى اخر نبضة . يبدأ الفيلم بالرسام العجوز يتجول هائما في الشوارع
بعد أن يصحو من نومه وهو لا يزال تحت تأثير حلم بحيث يبدو المشهد أقرب الى الحلم منه
الى الحقيقة . ولا ينتهي الا بعثور ابنته المراهقة روزاريو عليه وسط الشارع واعادته
للمنزل . تجري احداث الفيلم من خلال القصص والذكريات التي يرويها غويا لابنته روزاريو
.. كان غويا قد جاوز الثمانين في الفترة الزمنية التي يعالجها الفيلم وقد كان لاجئاً
مع مجموعة من المثقفين الليبراليين فراراً من الحكم الاستبدادي الذي ضاق بهم وظل يعاني
فيها حسب رؤية المخرج أوجاع الغربة ومشاكل الشيخوخة لكن دون ان يفقد قدرته على الرؤيا
الخلاقة والابداع الاستثنائي. . و في رحلات متتالية حينا و متشابكة احيانا أخرى تنقلت
الكاميرا بين مختلف الازمنة في ذهاب و اياب بين الماضي و الحاضر و بين الواقع و احلام
ورؤى الفنان و كانت روساريو ابنة غويا من اخر عشيقاته ليوكاديا زوريلا دي ويس التي
رافقته في منفاه الخيط الرابط بين ذلك الزخم من الأحداث و المغامرات التي عاشها الرسام
طيلة حياته الطويلة حيث عاش فوق الثمانين و ظل رغم المرض و الشيخوخة يداعب الريشة و
الالوان . وقد ركز المخرج في هذا الفيلم الذي تدور احداثه حول شخصية فنية رهيفة الاحاسيس
و دقيقة الملاحظة على وصف ذاتي لهذه الشخصية التي عاشت وسط المجتمع الارستوقراطيي و
لكنها جسدت اكثر من غيرها ماسي الانسان البسيط .ويبرع ساورا براعة غير عادية في الكشف
عن زوايا دالة على لوحات غويا ويفسرها سينمائياً مضيفاً بعمق الى تفسيرات مؤرخي الفن.
تتكون ذكريات غويا من تصوير مشاعره الذاتية وأحلامه وحتى هلوساته والتي جسدها في تخطيطاته
ولوحاته ذات القيمة التاريخية الكبيرة .. هذه الاجواء في الفيلم بما تتضمنه من تغيير
في الزمان والاماكن هي ما ساعدت المخرج على اغناء فيلمه من الناحية البصرية التشكيلية
. . ولد/غويا/ عام 1746، ومات عام 1828، وعاش حياةً صاخبةً متقلبةً مملوءةً بالبؤس
ثم المجد ثم الفراق ثم الجنون. وذلك بعد طفولة غامضة بعض الشيء، عاش أولها في مسقط
رأسه/آراغون/ثم التحق بأبيه في ترغوسطة، وبعد ذلك التحق بدير ثم بمحترف للفن، فشل بعده،
وهو في العشرين، في دخول أكاديمية الفنون في مدريد. فكانت إيطاليا أحن عليه إذ التحق
لاحقاً بأكاديميتها وهُنِىء بحرارة على لوحة حققها للالتحاق بعنوان «هانيبعل يجتاز
جبال الألب». وحين عاد من إيطاليا، مرّ بفرنسا ورسم فيها لوحات أعطته بعضاً من الشهرة
ليصل لاحقاً إلى اسبانيا، بعد بدايات جديدة في ترغوسطة، كُلف بوضع تصاميم لرسوم سجادات
في «المصنع الملكي» فوضع ستين رسماً حتى عام 1792، مثلت مشاهد مختلفة من الحياة في
مدريد. وكانت تلك الرسوم بداية انطلاقته الحقيقية، وهو في الثانية والأربعين. إذ بعد
ذلك تجد أعماله في المعارض الكبرى، وستجده في القصر الملكي، وتراه يرسم كبار شخصيات
البلاد ويقعٍ في غرام الدوقة/آلبا/ويجسدها بلوحات... وبما أنه استخدم أنواعا سامةً
من التراب في ألوانه بدأ يعاني أمراضاً خطيرةً مزمنةً تسببت له بالشلل والصمم، فتحول
إلى انعزالي منكمش وتولدت عنده نظرة ساخرة ناقدة وشكوكة إلى المجتمع. فانعكس ذلك كله
في أعماله الفنية التي سادتها ألوان مظلمة توحي بالكآبة والطابع المأساوي والحسّ التراجيدي
والنظرة التشاؤمية والمخاوف الوهمية... ثم كانت مجازر «الحروب النابوليونية» التي أثارت
بمذابحها ثائرته إلى حد الدنو من الجنون، فقدم رسومات ولوحات عن كوارث الحرب إبان إصابته
ثانية بالمرض... أما المرة الثالثة التي زاره فيها المرض الشديد، وانتهى بأن قضى عليه،
فقد انتجت لديه تلك«الرسوم السوداء المرعبة» التي مات بعد انجازها متسائلاً عن الجنون
البشري الذي يدفع الإنسان إلى قتل أخيه الإنسان.•
" غويا في بوردو " موضوع انساني يمتلك
الكثير من خيوطه بلغة سينمائية ترمي الى التأثير على المشاهد في اداء بارز لابطاله
عبر النظرات والصمت الذي يشي بالعفوية والتركيز على بناء الشخصيات دون الوقوع في كليشهة
العلاقات الاجتماعية بين البشر، مما يضع المشاهد في حيرة بين حدود الوهم والواقع وما
بين الاصل والصورة واسئلة الحضور والغياب للمبدع تجاه مجتمعه.
ثم يقدم ساورا فيلمه
المتميز عن فنان السينما المعروف لويس بونويل باسم/بونويل ومائدة الملك سليمان/ عام
. 2000 ثم قدم الحكاية الاسطورية الشهيرة حول عاشقة يوحنا المعمدان والمحرضة على قتله،
في فيلم يحمل اسمها/سالومي/ عام 2002 وقامت ببطولته الباليرينا المعروفة عايدة جوميث
بعد ان قدمت مادة هذا الفيلم مسرحياً بفرقتها واخراجها الفني، بينما قام كارلوس ساورا
نفسه بالاخراج المسرحي للعرض، الذي صاغ بنيته الكويوغرافية خوسيه انطونيو.
والفيلم يقع في
86 دقيقة ، ويؤدي الأدوار الرئيسة فيه كل من: آيدا جوميث (سالومي)، بيري آركييه (المدير)،
باكو مورا (هيروديس)، كارمن بيينا (هيرودياس)، خافيير توكا (خوان باوتيستا)، فيما تقوم
بأدوار الراقصين: فرقة آيدا جوميث.
وتنطلق قصة الفيلم،
في مزج ما بين الواقع المعاصر والحكاية التاريخية، من آيدا وفرقتها بينما يتدربون،
وفي الوقت الذي يكون المخرج قد وضع الخطوط الأولى للرقصات والموسيقى والديكور. وكل
كل شيء يبدو واعدا وعلى ما يرام... يظهر فجأة شبح جالس على أحد الكراسي المتحركة..
أنه هيروديس حاكم ولاية جاليليا، في حفلة عيد ميلاده حين طلب من بنت زوجته أن ترقص
له بالثمن الذي تطلبه هي، لكن الفتاة ترفض ذلك، لأن جل مايهمها هو الواعظ الذي يدعى
«المعمدان»، الذي فشلت في إغوائه، فتستسلم لرغبة زوج أمها فترقص له رقصا جميلا مليئا
بالإغراء أن يأتيها برأس يوحنا المعمدان.
ويسلط الفيلم الضوء،
بتحد جدي وجريء متألفا من الضوء والظلال والبساطة الواضحة في الديكورات، على الجمالية
العظيمة لرقصة تعيد ترجمة الفلامنكو المعزز بروح الأصالة القديمة، والموسيقى الأصلية
المستوحاة من مصادر عربية وباكستانية ومقطوعات دينية شبيهة بأعمال باخ وهينديل مستخدما
آلات النفخ والقرع الهندية التي تعمل على تنسيق حوار فجائي مشحون بالفلامنكو الأصيل.
ويجد هذا الخليط
الواضح إنعكاسه في معظم أساليب الرقص التي استخدمت في الفيلم والتي تنطق إجمالا بالباليه،
شكلت عملا حقيقيا ذا طابع خاص ساعد على ترسيخ أسطورة سالومي في حوض البحر المتوسط،،
بالرغم من إنها مازالت راسية في أحد عوالم الحب فيه حيث لا تعتبر من النوادر. إن أسطورة
سالومي لكارلوس ساورا إستمدت الفرضية التاريخية «الواقعية» لتتيح لنا مشاهدة وسماع
شيء بمعناه العالمي، باعتماد خليط من الخيال والوثائقية والرقص والتقصي عن مراحل تطور
الخليقة.
و عندما عمل بمساعدة
المصور السينمائي فيتوريو ستورارد، أصبحت أعماله السينمائية نوعاً من فنون الكولاج
يستخدم فيه وسائل الإعلام المتنوعة منها: الأفلام الشعبية المكرسة لفنون الفلامينكو
والتانجو ، ومنها «فلامنكو فلامنكو» 2010 الذي
يمنحنا ساورا فيه لمحة خاطفة لتاريخ الفلامنكو وتقاليده، ويشكّل احتفاءً بالموسيقى
والرقص..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق