محمد عبيدو
جريدة "السفير"
التاريخ: 1998-07-28
رقم العدد:8056
د. محمد كامل القليوبي، القادم من خلفية طويلة بالبحث والنقد السينمائي، مخرج سينمائي عمل على خلق رؤية سينمائية خاصة منذ فيلمه التسجيلي الطويل عن رائد السينما المصرية »محمد بيومي« مرورا بفيلميه الروائيين »ثلاثة على الطريق« و»البحر بيضحك ليه«. فلن تخطئ عينك أمام اللقطة الاولى من فيلم »ثلاثة على الطريق« وحتى قبل نزول العناوين، انك أمام فيلم »مثقف« يحمل من صانعه محمد القليوبي مؤلفا ومخرجا الكثير من ثقافته وخبرته، التي تمتد الى ربع قرن او يزيد من التعامل مع السينما كتابة وعملا.. لكن الاهم ان الفيلم مثله في ذلك مثل أغلب أفلام السينما المصرية الجديدة يحمل ايضا الكثير من هموم صانعه واهتمامه بقضايا الوطن الذي يعني امتزاجا حميما بين الجغرافيا والتاريخ. وكأنما اراد محمد القليوبي منذ اللحظة التي التحقت في ذهنه فكرة الفيلم الروائي الأول له، ان يضع يده على خريطة »مصر«، محاولا ان يمسك بجوهر حقيقتها على أرض الواقع الحي، عبر المكان والزمان، وان يسجل على شريط السليولويد بعضا من أزمتها الراهنة، لعله بذلك يمهد خطوة على طريق الحلم الذي راودنا بسينما جادة تسعى الى المساهمة في صنع وطن اكثر جمالا وعدلا. بين الجغرافيا والتاريخ، او بين المكان والزمان، بحث القليوبي عن شكل ملائم لهذا المضمون، فوجد ضالته في قالب »الرحلة« التي يخوض فيها مع شخصيات الفيلم وسط عالم لا بد انهم قد اجتازوه من قبل مرارا، لكن تجربة عنيفة تجعلهم يرونه وكأنهم يرونه لأول مرة. لم يكن غائبا عن وعي محمد القليوبي وهو يصنع فيلمه ذلك السحر الذي يحققه قالب الرحلة، ففيلمه يجوب في أنحاء الوطن ويغوص في أعماقه، يرى الوحدة في التنوع، والتناغم في الصراع.. فالفيلم يطرح أسئلة عميقة تتعلق بمعنى بناء الوطن وهي فكرة تنويرية قالها رفاعة الطهطاوي منذ زمن، ومن خلال شخصيات هامشية أوصلها الى المتن والأساس، عبر ملامسة شفافة دون ان يقدم حلولا جاهزة.. هذه المعالجة الجريئة بغوصه الى أعماق أبطاله الهامشيين يتابعها محمد القليوبي في فيلمه الثاني »البحر بيضحك ليه« والذي يغلفه بسخرية مريرة من الواقع الأليم من خلال الشخصية الرئيسية الذي يعمل محاسبا في احدى الشركات.. ويعيش مستسلما لحصار الضغوط العنيفة على مستوى الاسرة والعمل والشارع.. ان فيلم »البحر بيضحك ليه« يدافع عن حرية الانسان.. ويجسد القيود التي تحاصره في كل مكان.. وتصور تمرده على تلك القيود موضحا التباين بين عالمين عالم مزيف منافق.. والعالم السفلي الذي يبرز فيه النقاء النفسي. عالم القيود وعالم التحرر. وقد اتخذ من البحر خلفية لكل تلك الاحداث. وقد نجح القليوبي في استغلال الاحلام لتجسيد أفكاره عن الحرية المفقودة والتي استطاعت الكاميرا التعبير عنها.. في فيلميه الاثنين جمع القليوبي بين الشرط الجماهيري والمتعة الفنية العالية.. التقيناه في حوار حول رؤاه الفنية والسينمائية.
{ في فيلميك »ثلاثة على الطريق« و»البحر بيضحك ليه« انحياز فني وإنساني للبسطاء والفقراء. ماذا عن هذا العالم وقربه من تعبيرك الغني؟
انحيازي للبؤساء ابداعيا وإنسانيا هو حالة من الاحتفاء بالحياة وقيمها النبيلة. فالابداع بطبيعته يعبر عن القيم النبيلة، ولذلك من الطبيعي ان يهتم بالفقراء والمهمشين، ولذلك لا يوجد فن ينتصر للاغنياء، لأن الثروة لا تعني مالا كثيرا، ولكنها سلوك وقيم تعمل لمصلحة الثورة ولذلك تفسد الى حد كبير العلاقات الانسانية والقيم النبيلة التي يهدف الفن الى ترسيخها. وإصرار الكثير من السينمائيين على الاحتفاء بالفقراء ومناصرتهم مثل داوود عبد السيد ورضوان الكاشف وغيرهم، اعتبره نوعا من الرهان على تقدم البشرية الى الأمام. فالسينمائيون يؤكدون للفقراء انهم أحرار وقادرون على تغيير حياتهم. ولذلك فبطل فيلم »البحر بيضحك ليه« يبحث عن حريته الداخلية والتي يهدرها المجتمع الذي يسعى لتعليب افراده وكأنهم كائنات سابقة التجهيز، وذلك بوسائل كثيرة ابتداء من المدرسة والتربية الطبقية وغيرها. فالبطل يعذبه السؤال المأساوي: لماذا يحتمل كل هذا القمع والقهر؟! ولذلك لا يهمه ان يعيش في أسوأ الظروف الاقتصادية ويعمل حاويا طالما انه يمتلك حريته بيده ويستطيع ان يرى جوهر الاشياء ويعامل الانسان كإنسان.
{ ما الذي يدعوك لإنجاز فيلم سينمائي؟
عوامل عديدة.. أولها ان مهنتي أساسا هي صناعة الافلام وكل انسان يعبر عن نفسه بالأداة التي يملكها، فهذا هو حقي بالتعبير بالسينما، وهو حق طبيعي مكتسب أنا أقوم به من خلال صنع الأفلام. لو كان عندي مهنة ثانية لعبّرت من خلالها. أنا أصنع الافلام لأعبر عن نفسي.. وعندما تجذبني شخصية أصنع أفلاما تسجيلية، مثل فيلمي الاخير الذي صنعته عن الموسيقي »جمال عبد الرحيم«.. الشخصية هي التي تجذبني لنوع الفيلم الذي أنجزه.
{ في أفلامك اعتماد على نجم بارز هو محمود عبد العزيز.. كيف تتعامل مع تركيبة النجم والممثلين في عملك؟
كلامي هذا في إطار وجود صناعة سينما.. أنا أفلامي كلها مكلفة جدا. فلا يمكن اذاً انجاز هذه الأفلام الكثيرة التكاليف بدون وجود نجم سينمائي. فوجود النجم هنا ضروري لعوائد الفيلم او تدبير النقود اللازمة لإنتاجه. وهنا النجم لي هو ممثل. من ناحية ثانية انا عندما أتعامل مع ممثل مثل محمود عبد العزيز أرى انه ممثل جيد، أحتاجه لتجسيد الشخصيات التي لدي. وان لم يكن محمود عبد العزيز نجما لكان ايضا سيمثل فلميّ الاثنين. هناك جزء من نجوميته يساعدني كثيرا لكن حتى لو لم يكن نجما فهذه أدواره. كيف أتعامل معه؟ أنا أتعامل كصانع أفلام مع ممثل ويحدث التلاقي الطبيعي بيننا الذي يؤدي لتفاهم متزايد، وهذا ما أعمله مع كل الممثلين الذين يعملون معي.. نتفاهم بشكل جيد على الأدوار ونحضّر بشكل جيد، ونتحاور حول الشخصيات وملامحها وحركتها وبالتالي نستطيع اخراج أقصى امكانيات الممثلين الذين يجب ان يكونوا موهوبين. تخلف النقد العربي
{ بعض القراءات النقدية لأفلامك رأت تناقضا بين الحلم بسينما جادة والوقوع في فخ التوابل التجارية التي تقود الى شباك التذاكر. الى أي درجة ترى مثل هذه الملاحظات دقيقة؟
هذا نتيجة للجهل السائد.. لأن هذه الافلام أدعو لرؤيتها في تقييمها الدولي.. أفلامي كلها نالت جوائز دولية هامة وعرضت في أماكن كثيرة في العالم. وهي مدرجة في »الانترناشيونال فيلم رايت«، وكتب عنها مجموعة من أهم نقاد العالم في صحف ومجلات مرموقة مثل »اللوموند«. أنا لست مسؤولا عن ان النقد في العالم العربي يقف عند أواخر الستينات، ولا زال يحتفي بالرموز وبجماليات القمع وبالهشاشة ولا يرى السينما في علاقة بمتفرج. وأنا لم أتنازل أبدا كناقد، ولو تابعت كتاباتي تجدني أتكلم بنفس الطريقة. وأعتقد انني كنت متجاوزا لكثير من النقاد الذين لا يزالون جالسين على أواخر الستينيات يحفظون كليشيهاتهم. لا أعتقد ان أي مخرج يحاول عمل فيلم غير جماهيري، لكن للأسف هناك فهما خاطئا للجماهيري بأنه شباك التذاكر.. هذا أحد جوانبه لكن الجانب الأساسي في الجماهيرية هي ان تسعى كي يفهمك الآخرون، باعتبار السينما احدى وسائل الاتصال وهي وظيفة اساسية فيها، كما هو الحال في الكتابة او الرواية التي تسعى دائما لكي تجد قارئا.. او شخصا تتحدث معه..، كلما ازدادت هذه القاعدة من الناس الذين تتحدث معهم كلما كان جماهيريا اكثر.. وهذا يُعبّر عن نفسه انتاجيا بتمويل العمل سواء أكان كتابا او فيلما او حتى جريدة او مجلة، لأنه في العادة تقاس أهمية اية جريدة في العالم بعدد قرائها، وتأخذ من هنا أهميتها ومدى تأثيرها على الرأي العام، فلو ان الفيلم حقق نفس الشيء يتم احتكاره، ويقولون هذا فيلم تجاري.. التجارية أتت من فيلم جماهيري كما هو الحال بالنسبة للجريدة او للكتاب. السينما علاقة بين طرفين: مبدع ومتلق، كل منهما يطور الآخر.. يوجد علاقة متبادلة غير أحادية.. العلاقة ترتبط بالظرف السياسي والثقافي والاجتماعي والمرحلة التي نعيشها وتطور العالم..
{ ماذا عن علاقتك كناقد وسينمائي مع زملائك السينمائيين في مشرق ومغرب الوطن العربي؟
حاليا، أنا أتعامل مع سينما مشرق ومغرب الوطن العربي باعتباري صانع أفلام وليس باعتباري ناقدا. لا أكتب عنها. ولكنني في حوار مستمر مع أصدقائي السينمائيين في المشرق والمغرب لأنني أعتقد ان هناك كثيرا من الهموم القومية والوطنية والاجتماعية التي تجمعنا، بالاضافة الى ان عددا كبيرا منا كان زملاء دراسة. درسنا معا، عشنا وحلمنا معا بالسينما. وجاء الوقت الذي نحقق فيه أحلامنا والتي هي أحلام مشتركة. حاوره: محمد عبيدو