الأحد، 5 فبراير 2023

أسيا جبار : كاتبة وسينمائية مختلفة واشكالية

محمد عبيدو


 ولدت آسيا جبار، واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء املحاين- بشرشال يوم 30 يناير 1936، وقضت طفولتها والسنوات الأولى من الدراسة في مدينة موزاية بالبليدة، لتنتقل رفقة عائلتها إلى فرنسا، حيث شرعت في دراستها الثانوية بباريس سنة 1954 وعادت بعد الاستقلال ودرست في جامعة الجزائر، وأصبحت من أكبر الروائيين الجزائريين الكاتبين باللغة الفرنسية، رشحت عدة مرات لنيل نوبل للآداب. انتقلت رفقة عائلتها إلى فرنسا سنة 1954، وقد مارست الراحلة الكتابة لأكثر من 50 سنة، كما أخرجت عدّة أعمال سينمائية واهتمت كذلك بالتاريخ، كما نشرت أوّل أعمالها الروائية وكانت بعنوان «العطش» (1953) ولم تتجاوز العشرين من العمر وصدرت في منشورات جوليار بباريس. هذا النص الأول يدور حول الجسد والحميميات الأنثوية، وهو ما سيوجه لاحقا كتابات آسيا جبار ويتحكم فيها. ثمّ في عام 1958 صدرت روايتها الثانية “المتلهفون”، وفي هذا العمل تقف الكاتبة خلف قناع البطلة وتفتح لها المجال للإفصاح عن مكنوناتها والتعبير عن انشغالاتها ومؤرقاتها الحائلة دون احساسها بذاتها وعما تصوغها لها رؤيتها ورغبتها في رؤية اشياء الحياة البسيطة في الجزائر، وللحرية وللعلاقة مع الآخر، واستعادة ذكريات طفولتها. عاشت آسيا جبار الثورة التحريرية كمناضلة وكاتبة وصحافية، وقد أعدت مجموعة من الروبورتاجات والتحقيقات الصحفية عن المبعدين الجزائريين لحساب جريدة ”المجاهد” وهذا بطلب من فرانتز فانون، وأصدرت الروائية آسيا جبار روايتها الثالثة “اطفال العالم الجديد” لتتطرقّ الى الواقع النضالي في اوساط الشعب الجزائري خلال حرب التحرير، وعند المرأة الجزائرية التي لم تبخل في عطائها ومساهمتها ومشاركتها في الكفاح المسلح. منحى الكتابة عند آسيا جبار في هذا العمل لم ينسلخ عن جذوره الاولى، مطالبة المرأة بالتحرر والخروج الى العمل لتساهم في بناء الجزائر الفتية.

وفي عام 1958 تزوجت الكاتب أحمد ولد رويس (وليد قرن) أحد نشطاء المقاومة الوطنية الجزائرية الذي ألف معها رواية “أحمر لون الفجر”، وانتقلت للعيش في سويسرا ثمّ عملت مراسلة صحافية في تونس. وتطرقت روايتها التالية «القبرات الساذجة»، الصادر عن منشورات آكت سود ، إلى هموم جيل ضائع في عالم موزع بين حضارتين، وفي مقدمة كتابها قدمت جبار شرحا لنهجها الادبي ونضالها السياسي متحدثة عن التذبذب المتواصل بين الاجيال فتقول : ” لنكن صادقين ، احيانا يبدو حاضرنا مثاليا حين ننظر الى البطولة في الحرب والتحرير ويصبح الماضي هو الانحطاط والسقوط خلال ( الليل الاستعماري ) .وفي احيان اخرى ، يبدو حاضرنا بائسا حين ننظر الى عدم جديتنا وعدم اكتفائنا ويكون ماضينا على العكس اكثر صلابة …انه حبل سري يمتد حتما ما بين سلسلة من الأسلاف ولأنها لا يمكنها الإنجاب، تبنت في عام 1965 طفلاً في الخامسة من عمره وجدته في دار الأيتام بالجزائر، لكن زواجها واجهته مصاعب عديدة فتخلت عن ابنها بالتبني وانتهى زواجها بالطلاق عام 1975. وهاجرت إلى فرنسا عام 1980 . هذا الابتعاد الذي أبقاها في انشغالاتها الجزائرية والعربية والافريقية عبر سردها الإبداعي الخاص عن ذلك تقول: ان تكوني كاتبة افريقية يعني قبل كل شيء البحث عن شكلك السردي الخاص، عن لغتك الخاصة، عن فرنسيتك الخاصة وإيقاعك تحت او على هامش اللغات الاخرى الموروثة والتي سميتها “الاصوات التي تحاصرني”.ومن فرنسا أصدرت أشهر أعمالها بدءا بالمجموعة القصصية “نسوة الجزائر في بيوتهن” (1980) و قد استعارت عنوانها من لوحة خالدة لديلاكروا رسمها لدى مروره بالجزائر ، وتغامر في مجموعة القصص هذه بأساليب جديدة مثل الحوارات بين النساء ورنين اللغة وتقنية المونتاج كما تستخدم في الأفلام. . ثم واصلت بنفس جديد تشعبت معه مجالات كتابتها بين المجالات الروائية والشعر، فبالإضافة إلى إبداعاتها الروائية التي سجلت تحولاً ملحوظاً سواء في طبيعة الموضوعات المطروقة أو طرق التناول أو الرؤية الجمالية المتبناة مثل “الحب الفنتازيا” 1989 و”الظل السلطاني” (1987) التي تدعو من خلالها إلى الديمقراطية وحوار الثقافات وتدافع عن حقوق المرأة..وتكتب”بعيدا عن المدينة المنوّرة” (1991) و”السجن ما أوسعه!” (1995)، أصدرت آسيا جبار كتاب ”بياض الجزائر” (1998)؛ حيث تروي ذكرياتها مع أصدقائها (الطاهر جعوط، عز الدين مجوبي، وعلولة) المغتالين ثلاثتهم خلال الأحداث التي عرفتها الجزائر خلال العقد الأخير من القرن الماضي، بكت آسيا جبار أصدقاءها المثقفين الذين اغتيلوا ايام عز الازمة التي ألمّت بالجزائر… اغتيلوا ببشاعة ورحلوا في صمت رهيب كما بكت الانسان اينما وجد. وبذلك تنتقل الروائية من جغرافية الجزائر الى جغرافية الكون. إلى جانب كتاب حول العنف بعنوان ”وهران اللّسان الميت” و”هذه الأصوات التي تحاصرني “(1999)، و”اندثار اللغة الفرنسية”، و”ليالي ستراسبورغ” التي حازت على ” جائزة ميديسيس” إحدى أرفع الجوائز الفرنسية وهي لم تكتب هذه الرواية هرباً من وجع الموت الجماعي الذي شهدته الجزائر، وإنما كعلاج نفسي داوت به غربتها وآلامها، بحسب تعبيرها. كتبت (امرأة لم تدفن) الذي صدر العام 2002 هو كتاب بين الرواية والتوثيق، ففي هذا العمل تحاور بنات ورفاق زليخة بطلة المقاومة الجزائرية بعد عقود من وفاتها، وتحاول المؤلفة أن ترسم حياة تلك المرأة الشجاعة من جديد. وقد حملت روايتها قبل الاخيرة عنواناً مثيراً هو: «اختفاء اللغة الفرنسية» وفي هذه الرواية لا تتوانى عن رثاء لغة الاستعمار، التي كانت لغة ابيها المثقف الجزائري مثلما اصبحت لغتها هي التي تجسد في نظرها «الغربة» و«الكينونة» في وقت واحد. و اخيرا روايتها « لا مكان في بيت والدي» 2007 وهي عبارة عن سيرة ذاتية واعترافات جريئة وكان لما أنتجته آسيا جبار أهميته في صياغة وتوجيه التمثيلات الاجتماعية والثقافية عن الذات الجزائرية وعن الآخر، وبهذا النتاج الغزير عبرت عن تجارب الشعب وتصدّعات الذاكرة وأزمات الهوية بلغة الآخر. وأثثت كتاباتها بمرجعيات مركبة حيث النص يظل مفتوحا على التاريخ والفنون والحقول الأخرى.

بعد الاستقلال توزعت جبار بين تدريس مادة التاريخ في جامعة الجزائر العاصمة والعمل في جريدة “المجاهد”، مع اهتمامها السينمائي والمسرحي. ففي سبعينيات القرن العشرين صمتت آسيا جبار عن القول الروائي مدة عشر سنوات ولكنها لم تصمت عن البحث والتساؤل، فاتجهت إلى السينما والمسرح ، وقد سمحت لها السينما بالالتقاء مع مجتمعها وفهم العالم الأنثوي بالأخص. حيث تصالحت مع مجتمعها وأنوثتها واستمعت إلى هذه اللغات المحكية. هذا المجتمع الأنثوي الذي لم يكن له الحق في الكلام، ومن خلال ما أخرجته آسيا جبار من أفلام، فقد أعطت الكلمة للمرأة وجعلتها البطلة والفاعلة، لكن أيضا عادت إلى اللغة الشفهية في اجتماع النسوة وأحاديثهن في الأعراس والمآتم والحمامات وغيرها من أماكن الالتقاء. أخرجت فيلم “نوبة نساء جبل شنوة” الذي نالت به تقدير لجنة تحكيم مهرجان البندقية عام 1979.



كان فيلم “نوبة نساء جبل شنوة” 1977 الوثائقي للروائية والمخرجة آسيا جبار، الذي يشكل انفراداً متميزاً في العلاقة بين الروائي والسينمائي في الجزائر، كون أن آسيا جبار هي في الأساس كاتبة وجامعية خاضت هذه التجربة الوثائقية والتسجيلية انطلاقاً من المعايشة الشخصية للكاتبة – المخرجة والرصيد الشعري الكامن لدى نساء الجزائر، وبالخصوص في جبل شنوة (قرب ولاية تيبازة مسقط رأس المخرجة) وهنا نشأت علاقة حميمة بين نساء جبل شنوة، ورؤية مخرجة تحمل في داخلها حسا نسائياً متقدماً أرادت أن تكثفه في عمل قريب وواقعي. الوثائقية والتسجيلية وسيلة لسرد البعد الشاعري لهؤلاء النسوة في محيطهن الطبيعي وهن يعبرن بالكلام او بالرقص على أنغام النوبة الممتزجة بالغناء والبندير. كان عملها مقاربة شاعرية للموروث الثقافي لمنطقة شنوة الأمازيغية بولاية تيبازة (الجزائر)، وهي تعمل على فيلم “نوبة نساء جبل شنوه” تقول: “بهذا الفيلم أيضا أقوم بالأدب، أمر من الأدب المكتوب إلى الأدب الشفوي. أؤكد دورا للتوصيل. في بداية هذا المشروع بدأت بالاستماع لحكايات النساء. قمت بهذا العمل في منطقتي الأصلية (جبل شنوه).لقد قُـبلت من طرفهن، ليس لأني كاتبة، ولكن لا، لي روابط بوسطهن. وأنا أستمع، كانت هناك صور تتشكل في خيالي شيئا فشيئا والفيلم يتشكل أيضا”.وهكذا فإن جبار قد استلهمت كل هذه الأحاديث لتتخذ منها جانبا وثائقيا في فيلمها “نوبة نساء جبل شنوه”. عن الفيلم كتبت د. كريمة الإبراهيمي :” يقوم النص على أحداث عديدة تتأرجح بين الحقيقة والخيال: “وفيه تصور جبار جانبا من حرب التحرير الجزائرية ودور المرأة الجزائرية في هذه الحرب. وهو مزيج م الروائي والتسجيلي، ويسير في اتجاه تجريبي وجمالي متميز”.



وأنجزت آسيا جبار عام 1982 “زردة أو أغاني النسيان”. الفائز بجائزة أفضل فيلم تاريخي في مهرجان برلين السينمائي. وهو عبارة عن توثيق لطبيعة الحياة في المغرب العربي في النصف الأول من القرن العشرين، الذاكرة و تاريخ الاستعمار في الدول المغاربية الذي كان يعتمد على الفصل بين الصور التي اختارها لاحتفالات ولهتافات خلال زيارات السياسيين الفرنسيين، وبين واقع الشعوب الأصلية، الذي يبينة الشريط الصوتي . فالصور الفرنسية توحي بأغاني “الآخرون المنسيون”، في هذا الفيلم الذي يتمحور حول موضوع المرأة. والمرأة هنا تكشف عن قدرتها على التعبير عن نفسها بجرأة وعلى اجتراح ولادة جديدة. آسيا بفيلمها مناضلة من أجل رفع قيمة المرأة وتمكينها من حقوقها . ما يجعل من سينماها وكتاباتها شاهدا على شروخ الهوية وتقلبات الزمن و التاريخ ووجه الذات المنكسر . و تعبيرا عن سعيها كمبدعة لإخراج كائناته الورقية إلى كائنات حية من لحم ودم ، كتابة وإخراجا . وفي خلق صور أصيلة تنفرد بتماسك جمالي خاص بها. تبدو التجربة الثقافية لآسيا جبار تأسيسية على أكثر من مستوى. فهي استكملت طريق الكتابة النسوية وجعلت منها محفلاً ثقافياً قائماً بذاته. وتكفي اليوم قراءة كتابات جزائريات، سواء في الداخل أو في المهجر، من قبيل: صفية قطو، ومريم بين وأحلام مستغانمي وفاطمة غالير ومالكة المقدم وسواهن للوقوف على المسار المنفتح الذي اختطته كتابات آسيا جبار، وعلى ذلك الوعي اليقظ بقضايا التاريخ وقوة الهوامش النسوية، واستمرار الأسئلة القلقة التي تطرحها على عوالم المجتمع والثقافة. كما أنها فتحت أمام النساء الجزائريات باب السينما وطرقته في وقت كانت لا تزال الكلمة، أو بالأحرى الصورة، تستعصي على التناول النسائي. واليوم يمكن للسينمائيات الجزائريات، من أمثال يمينة شويخ ونادية شرابي ويمينة بنغيغي ورشيدة كريم ومليكة طنفيش وفجرية دليبة أن يفتخرن بكون رائدتهن في هذا المجال كانت امرأة مثقفة وكاتبة وأديبة من طراز آسيا جبار، يتماشى لديها التعبير بالصورة والتعبير بالكلمة عن الهواجس التاريخية والشخصية الدفينة للمرأة العربية المعاصرة.

آسيا جبار مبدعة مختلفة وإشكالية ، كانت حياتها رحلة طويلة في بحث متواصل عن طرق ومسارات جديدة للتعبير. حاولت طرح قضايا الوعي الوطني الممزق بفعل ترسبات الوجود الكولونيالي، كما حاولت تناول قضايا المرأة المقهورة ورافعت عن الأنوثة بخطابها السردي والسينمائي، وقاربت ذلك بنظرة تاريخية وانترولوجية وبتأمل مشبع بالهم الإنساني وبالوقوف في وجه التهميش عموما. عندما تريد آسيا جبار أن تختصر تجربتها الإبداعية تقول: “أحاول ككاتبة أن أصلح الاقتلاع الذي كنت ضحيته في طفولتي. ومجيئي إلى السينما جاء من باب الذهاب إلى العربية المحكية. تجربتي السينمائية جعلتني أعي كوني كاتبة بالفرنسية من دون عقد نقص، ولِم العقد طالما أني أكتب عن بلدي”.


لئن تأجل حضور اسم ”آسيا جبار” في سجل الفائزين بنوبل للآداب، بالرغم من ترشيحها للجائزة مرات عدة، فإن تتويجها بجائزة المكتبيين الألمان العالمية للسلام عام 2000، يبقى علامة فارقة لها ألقها الخاص ضمن الأحداث الثقافية العالمية. شغلت قبل رحيلها منصب بروفيسور الأدب الفرنكفوني في جامعة نيويورك.. .ووارت التراب بمسقط رأسها (شرشال) وفقاً لرغبتها ، وهي مَن قالت: “حين اكتب آمل ان اترك ورائي أثرا، ظلا،ً نقشا محفورا في وسط رمال ثائرة او في غبار يتطاير فوق كثبان تعلو وتنحدر وحسب رأيي هذا هو الاهم”.

محمد عبيدو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق