ترجمة : صالح علماني وعاصم الباشا
اعصروني فوق البحر
اعصروني فوق البحر،
تحت الشمس، وكأن جسدي
مزقة من شراع.
اعصروا كل دمي.
مددوني، لتجفيف حياتي،
على شباك الرصيف.
إنني ناشف، ألقوا بي إلى المياه
بحجر مربوط إلى عنقي
حتى لا أطفو بعدها أبداً.
دمائي منحتها للبحار.
فأبحري فيها أيتها المراكب!
وأنا تحت، مستكين.
برج إثناخار
سجين في هذا البرج،
وسجيناً سأبقى.
(أربع نوافذ مشرعة للريح).
ـ من يصرخ نحو الشمال يا صديقتي ؟
ـ إنه النهر الذي يمضي صاخباً.
(إنها ثلاث نوافذ مشرعة للريح).
ـ من يئن نحو الجنوب يا صديقتي ؟
ـ إنه الهواء، الذي يمضي بلا أحلام.
(إنها نافذتان مشرعتان للريح).
ـ من يتنهد نحو الشرق يا صديقتي ؟
ـ أنت ذاتك ، وقد أتيت ميتاً.
( إنها نافذة واحدة مشرعة للريح).
عيون الناس
مغمضة. وجميع الأبواب
والنوافذ مسمرة
وأنا أحمل معي
السترة الممزقة.
مرتجفاً،
ميتاً أنا على حديد نافذتك .
أمد يدي إليك، وأنت.
بكفك القاسية الحانية،
تغرسين فيها المدية
الحادة، الطويلة السوداء،
ذات الرأس الأسود.
أغنية ملاك غير محظوظ
أنت أيها العابر:
مياه تجرفني
لتتركني.
ابحثوا عني في الموجة.
في ما يمضي ولا يعود:
رياح تنطفئ في الظل
وتشتعل.
ابحثوا عني في الثلج.
ما يجهله الجميع:
رمال متحركة
لا تحادث أحداً.
ابحثوا عني في الهواء.
الملاك الطيب
جاء الذي أحببت
ذلك الذي ناديته
ليس من يكنس سموات عزلاء
ونجوماً بلا أكواخ
وأقماراً بلا وطن
وثلوجاً.
ثلوجاً تهطل من يد،
من اسم،
من حلم،
من جبين.
ليس من ربط بجدائله
الموت.
إنما الذي أحببت.
لا يخدش الهواء
لا يجرح الأوراق ولا يحرك البلّور
ذلك الذي ربط بجدائله
الصمت.
ليحفر ـ دون أن يجرحني ـ
شاطئاً من نور عذب في صدري
وليجعل روحي
صالحة للإبحار.
عن "تيرتيو " (1)
-1-
ما بكِ، قولي يا ربة شعر سنواتي الأربعين
-حنين للحرب، للبحر وللمدرسة.
-2-
ربة شعري، رأيتك بين نورين،
مُداسة، مُهشمة، جريحة.
تعرجين، خارج حدود الموت،
إلى الحقل الوحيد، إلى العالم المتفرد.
-3-
كان رجلاًن كان أنثى، أكان لحظة ؟
أهي تهذي، محلولة،
خارجة من ذاتها، دامية، أحشاء الأرض ؟
هل استطاعت
أن تنتزع من الزمن حبة واحدة
لولادة الظلال المنحرفة هذه ؟
-4-
رصاصة ومتران من الأرض فقط
ـ قالوا لهم.
والحقلُ
بدلاً من القمح أنبتت صلباناً.
-5-
الجندي في الثلج ظن أنه نخلة
وأن ذراعيه مفعمتان بالتمر.
-6-
وفارس الصحراء ذاك يمضي
مترنماً بين ظلال صنوبر متجمدة.
-7-
ماذا يعني طفل في الثلج ؟ ماذا يعني طفل ،
يبكي، وحيداً، ويبحث عن قريته ؟
-8-
يرقد الجندي . انبرى
كلب ينبح عليه هائجاً.
-9-
يرقد الجندي .أتى
جدول ليسأل عنه.
-10-
يرقد الجندي . تنزل الغابة
لتبكي عليه كل صباح.
-11-
يرقد الجندي .أتى
طفل مع الهواء ليحدثه عن ضيعته.
-12-
يرقد الجندي.
لا أحد
استطاع معرفة اسمه. فكتبوا عليه:
ابن القرية الساقطة في وَهْدة.
-13-
توقفي هنا أيتها الندف المتطايرة، توقفي أيتها الرياح.
هل ثمة من هو قادر على تذكري ؟
-14-
لقد كنت جندياً، كنت عظاماً
لتجسيد الوطن.
-15-
ليس لي وطن.يمكنك
زرع عظامي إلى جانب أي نهر.
-16-
كم هو محزن غناء المرء وهو يعض شفتيه،
واضعاً وسادة على الكلمات،
وحزاماً على نبضات اللسان الحرة،
ومنخلاً على دويّ الدم.
كم أنا وحيد!…
ما أشد وحدتي أحياناً، آه كم أنا وحيد ،
وحتى كم أنا فقير وحزين ومنسيّ!
وهكذا، أرغب في طلب صدقة
من شواطئ ميلادي، من حقولي.
امنحوا العائد، أحلفكم بالحب، قطعة
من نور هادئ، من سماء ساكنة.
رحمة! ألا تعرفونني …
ليس كثيراً ما أطلب …أعطوني شيئاً.
قصيدة إلى شعراء الأندلس اليوم
ماذا يغني شعراء الأندلس اليوم ؟
ماذا ينظر شعراء الأندلس اليوم ؟
ماذا يشعر شعراء الأندلس اليوم ؟
يغنون بأصوات الرجال ، ولكن أين الرجال ؟
بعيون الرجال ينظرون ، ولكن أين الرجال ؟
بصدور الرجال يشعرون ، ولكن أين الرجال ؟
ألم يبق أحد في الأندلس ؟
ألم يبق أحد في جبال الأندلس ؟
ألم يبق أحد في بحار وحقول الأندلس ؟
أليس هناك من يرد على صوت الشاعر ؟
من ينظر إلى قلب الشاعر الذي بلا جدران ؟
أأمور كثيرة ماتت ولم يبق سوى الشاعر ؟
غنوا عالياً، ستسمعون أن آذاناً أخرى تسمع.
انظروا عالياً، سترون أن عيوناً أخرى تنظر.
اخفقوا عالياً، ستشعرون أن دماء أخرى تنبض.
ما أعمق الشاعر في باطن الأرض المظلم المغلق.
لكن غناءه سيسمو ليكون أعمق
عندما ، ينفتح للهواء، يصبح ملكاً لكل الناس.
أغنية 15
أعرف أن الجوع يذهب بالنعاس.
ولكن عليّ أن أستمر بالغناء.
وأن السجن يغيم الأحلام.
ولكن عليّ أن أستمر بالغناء.
وأن الموت يقتل الحلم.
ولكن علي
علي أن أستمر بالغناء.
أغنية 12
أريد الغناء : أن أكون زهرة
لبلدي .
أن تأكلني بقرة
من بلدي .
أن يضعني على أذنه
فلاح من بلدي .
أن يستمع إلي
قمر بلدي .
أن تبللني بحار
وأنهار بلدي .
أن تقطعني
طفلة من بلدي .
وأن تدفنني الأرض
في قلب بلدي .
لأنني ،كما ترون، وحيد،
دون بلدي
( مع أنني لست بدون بلدي ).
قصيدة حول ما قالته الريح
بوسع الخلود أن يكون
نهراً فحسب،
حصاناً منسياً
وتحليق
حمامة تائهة.
ما أن ينأى الإنسان
عن البشر، حتى تأتي الرياح
لتقول له أشياء أخرى
وتفتح أذنيه
وعينيه على أشياء أخرى.
ابتعدت اليوم عن البشر،
وحدي ، على شفير الغور،
وقفت أتأمل النهر
لم أرَ سوى حصان،
لم أسمع سوى تحليق
حمامة تائهة.
اقتربت الريح
كعابر سبيل
وقالت لي:
بوسع الخلود أن يكون
نهراً فحسب
حصاناً منسياً
وتحليق
حمامة تائهة.
قصيدة الذي لم يذهب أبداً إلى غرناطة
إلى فيدريكو غارسيا لوركا
كم أنا بعيد، وتفصلني بحار ، حقول وجبال!
وشموس أخرى تنظر إلى رأسي الشائب.
لم أذهب أبداً إلى غرناطة .
رأسي قد شاب ، سنواتي ضاعت.
أريد العثور على الدروب القديمة المطموسة .
لم أرَ أبداً غرناطة.
ضع لي غصن نور أخضر في يدي.
ولجاماً قصيراً ، وامنحني عدْواً طويلاً.
لم أدخل أبداً إلى غرناطة.
أي أناس أعداء يسكنون دروبها؟
من هي الأصداء الصافية الحرة في هوائها؟
لم أذهب أبداً إلى غرناطة.
من يسجن حدائقها اليوم، ويضع
سلاسل على حديث نوافيرها؟
لم أرَ أبداً غرناطة.
تعالوا يا من لم تذهبوا أبداً إلى غرناطة.
بها دماء مهدورة، دماء تناديني.
لم أدخل أبداً إلى غرناطة.
بها دماء مهدورة، دماء الأخ الأفضل.
دماء بين شجيرات الريحان ومياه الباحات.
لم أذهب أبداً إلى غرناطة.
دماء الصديق الأفضل ، بين الريحان.
دماء في "الدارو " ،وفي "الخنيل "، دماء.
لم أرَ أبداً غرناطة.
إذا كانت الأبراج عالية ، فالهمة عالية.
تعالوا من الجبال، من البحار، من الحقول.
سأدخل غرناطة.
سأدخل غرناطة.
عندما أغادر روما
عندما أغادر روما،
من سيذكرني؟
اسألوا القط ،
اسألوا الكلب
والحذاء المثقوب.
اسألوا مصباح الطريق التائه،
الحصان الميت
والشرفة الجريح.
اسألوا الريح العابرة،
البوابة القاتمة
التي بلا بيت.
اسألوا الماء الجاري
الذي يكتب اسمي
تحت الجسر.
عندما أغادر روما،
اسألوا عني هؤلاء.
أنت صنعت تلك اللوحة
أنت صنعت تلك اللوحة ووضعت لها عنواناً.
وضعت هذا العنوان وليس شيئاً آخر .
فدائماً ومنذ البكاء الأول في الدنيا،
كانت الحروب معروفة،
وكل معركة كان لها اسم.
أنت عشت واحدة منها:
الأولى والأفظع بين الحروب كلها.
ومع ذلك،
بينما كانت طلقة بندقية
تلامس صدغ صديقك الحميم ن أبولينير (1) ،
كانت يدك المسهدة،
ـ ليس على بعد كيلومترات كثيرة ـ
تتابع إبداع الواقع الجديد الرائع
المفعم بالمستقبل.
ولكن فيما بعد،
بعد حوالي عشرين سنة،
عندما مُسّ ذلك الثور
الذي يجيش في عروقك،
نزلت دون أوامر من أحد
إلى وسط الصراع،
إلى مركز حلبة أسبانيا الدامية.
وأَدنت بغضب،
ورفعت حتى السماء أحزانك،
في صرخات الجواد.
وأظهرت أسنان الأمهات الغاضبات
مع أطفالهن المبتورين،
وعلى الأرض أظهرت السيف المكسور بيد المدافع الشهيد،
والنخاع المقطع، والأعصاب المشدودة خارج الجلد،
مثلت الألم، والاحتضار، والغضب ودهشتك أنت بالذات.
مثلت وطنك،
الذي خرجت منه يوماً.
ولم تسمِّ هذه اللوحة "مارن " ولا "فيردان " (2) ،
ولا أي اسم آخر يستحق الخلود العميق،
بل أسميتها "غيرنيكا ".
إنه الشعب الأسباني،
ـ مع أن كثيرين لا يريدون ـ
هو الذي كان هناك دائماً،
هو الذي كانت لديه الجسارة ليضع بين يديك
هذا النور الأبيض والرمادي (3) ، الخارج من دمه
لتضئ له ذاكرته.
وحدتًكَ الآن
وحدتك الآن ،هناك، في عليائك
ليست وحيدة،
إنها تعج بالسكان،
بالأشياء والكائنات المرئية أبداً
والتي تؤرخها كل يوم
مانحاً إياها عمراً للمستقبل.
أنت في وحدتك
بلد مزدحم.
لك أيضا، يا "بير باولو بازوليني "
أنت، ما من كنت ملاكاً
ضائعاً في جحيم هذا الزمن الذي بلا عَظَمة،
لقد سخروا منك ، بصقوا عليك،
غمروك باللعاب،
لقد داسوك بنذالة.
ليس لمرة واحدة
وإنما لمرات حقودة لا متناهية
داسوا جسدك القوي الساقط بلا دفاع،
يا أخي، أيها الشهم،
يا من كانت عندك لي كلمات صمت
وحب، في الأيام البعيدة
أيام لقائنا في روما،
والآن، هذه الليلة،
في هذا الفجر من بداية الربيع،
تعود إليّ، وأشعر بك في نحيب
البحر، المضيء بهذا النور البحري،
على هذه الرمال التي شربت
كل الدم المسكين،
دمك، دم الشاعر
الذي صار خالداً، أبدياً، منذ ذلك الفجر الحزين.
21/آذار/1976
زمن الإدانات
زمن الحزن ، الوحشية،
أحكام الإعدام
وظلال تترامى فيه بعواء ونواح.
لا تستطيع النوم، وإذا نمت
كان النوم سجناً مسمر الأقفال.
زمن يتعذب فيه الحب قلقاً
تكسره نداءات ملحة للنضال
وقد يخرجونه من فراشه
ليعدم في فجر باهت.
ملعون زمن التضرع اليومي
وليالي الغم بانتظار النهار
وتلك الدقيقة السوداء، عندما تشطب يد جليدية
حياة الرجال.
زمن القانطين
تعيس هو شاحب
تأمل الأزهار فيه يكاد يكون جرماً
وامتداح زرقة البحر، وانسجام
تحليق الطيور المبتعدة في الخريف.
ولكن ، رغم السنوات القاتمة الطويلة
هذا زمن تنتظر فيه الروح في قمة أساها
أن يرشح النور من خلال الدم
وأن يستقر بسلام فوق كل الأشياء.
إلى أرنستو غيفارا
عرفتك طفلاً
هناك ، في ريف قرطبة الأرجنتينية،
تلعب بين أشجار الحور وحقول الذرة،
بين أبقار المزارع القديمة، بين العمال…
ولم أعد أراك ، إلى أن عرفت يوماً
بأنك صرت النور المضرج، صرت الشمال،
بأنك هذا النجم
الذي علينا، كل لحظة، أن ننظر إليه
لنعرف أين موقعنا.
روما، خريف1972
الستيني
ما من لحية في الداخل أو في الخارج.
إنه وجهي ، وجهي أنا، وجهي الحقيقي.
لي ستون عاماً، أجل ، وأريد
أن أحملها كمن يحمل راية.
لو كنت أكثر شباباً، أو لم أكن،
وأنا أغني كالعادة، فرحاً، أنتظر.
فسيأتي عمر آخر ، سيأتي، لكن في البدء
لا بد أن يموت الربيع.
لي ستون عاماً. وأحب الإنسان،
الذي رفع هذا العصر فوق ركبتيه، متيناً،
وبسط يده بسلام.
إني واثق بمعتقدي، لأنه عدل.
وها أنذا أؤكد باسمي:
"أنا رفائيل ألبيرتي، القادشي ".
رفائيل البيرتي شاعر أسباني ولد في مدينة قادش، في قرية بويرتو دي سانتا ماريا في أسبانيا سنة 1902، توفي يوم الخنيس 28/10/1999 عن 97 عاما.. وهذه المختارات من كتاب ( رفائيل البرتي، مختارات شعرية ) من ترجمة صالح علماني وعاصم الباشا، دار الفارابي، بيروت ـ 1981