الخميس، 7 أغسطس 2014

«أنفاسي الأخيرة» مذكرات لويس بونويل الصاخبة



محمد عبيدو ـــ قبل وفاته في حزيران من العام 1983، بأشهر قليلة أنهى لويس بونويل، المخرج السينمائي السوريالي الذي عاش عصره بتفرد وأسهم في العديد من حركاته الثقافية والفنية، مذكراته، التي ترجمها المخرج مروان حداد وصدرت تحت عنوان «أنفاسي الأخيرة» ضمن سلسلة الفن السابع عن مؤسسة السينما السورية. في الفصل الأول منها يقول: «في هذا الكتاب، القريب من السيرة الذاتية، والذي تهت فيه أحياناً، كما في رواية من روايات الصعاليك، تركت لنفسي الانسياق وراء إغواء لا يقاوم في رواية الحكاية غير المتوقعة، والمستمرة، مع حذري من إيراد أي ذكرى زائفة. أخطائي وشكوكي تشكل جزءاً مني، كما هي الحال مع يقيني.. ولأنني لست مؤرخاً، لم أستعن بالملاحظات أو بالكتب و.. في كل الأحوال، فإن الصورة التي أقدمها، هي صورتي، مع قناعاتي، مع ترددي، مع تكراري، مع حقائقي وأكاذيبي.. وبكلمة واحدة: ذاكرتي».‏‏
في فصل عن الأحلام وأحلام اليقظة، يكتب بونويل: «لو قالوا لي بقي لك من الحياة عشرون يوماً، ماذا تفعل في الساعات الأربع والعشرين من كل يوم من هذه الأيام التي سوف تعيشها؟ لأجبت: أعطوني ساعتين من الحياة الفاعلة وعشرين ساعة من الأحلام شرط أن أتذكرها فيما بعد، لأن الحلم موجود لمجرد الذكرى التي نتعلل بها».‏‏
«هذا الجنون الخاص بالأحلام، بمتعة أن أحلم، وهو ما لم أحاول أبداً إيجاد تفسير له، يشكل إحدى النزعات الدفينة التي قربتني السريالية «كلب أندلسي» ولد من تمازج ما بين احد أفلامي وحلم «دالي» وفيما بعد أدخلت أحلاماً في أفلامي محاولاً تفادي المظهر العقلاني أو التفسير الذي يمكن أن تنطوي عليها، ذات يوم قلت لمنتج مكسيكي: إذا كان الفيلم أقصر مما يجب فبإمكاني أن أضيف له حلماً، ولم ترق له دعابتي كثيراً».‏‏
والمتابع لأفلام بونويل يمكنه أن يستنتج عدداً وافراً من المصادر التي أضفت على تلك الأفلام الصبغة السريالية، ولكن الحافز الرئيسي كان «الحساسية غير العقلانية» كما يبدو من معالجته للصور والمونتاج والصوت، وهذا ما يمنح الأفلام خصائص الحلم، وكانت أكثر صوره تكثيفاً هي التي تثير أما الضحك أو الغموض. لقد آمن بونويل «بأن الغموض هو العنصر الأساسي في أي فن، فهو لا ينفصل عن المصادفة، والكون كله شيء غامض».‏‏
ويتحدث بونويل وبشكل جيد للغاية عن دهشته لدى اكتشافه باريس عاصمة الثقافة العالمية، عاصمة «الحداثة» في عشرينيات هذا القرن فيتعرف على أندريه بريتون المنشق عن دادائية تريستان تزارا والمصمم على تحرير الإنسان من كل عبودية وقيود البرجوازية باستخدام أسلحة اللاوعي التي تعبر عنها بالأحلام والكتابة الآلية.‏‏
في عام 1928، وبدعم مادي من والدته، تمكن بونويل من تحقيق فيلم «الكلب الأندلسي» بالتعاون مع سلفادور دالي. وكان المراد من هذا الفيلم صدم البورجوازية وانتقاد الفن الطليعي في آن واحد. وقد عبر بونويل في فيلم «الكلب الأندلسي» عن رفضه لنزعات الطليعيين الشكلانية وولعهم بـ «الخدع « السينمائية على حساب المضمون. وسيناريو الفيلم مستوحى من حلمين احدهما للويس بونويل حينما حلم ذات مرة «بأن غيمة تقطع القمر»، «موسى حلاقة تشق عيناً» وحلم دالي «بأن يداً ملأى بالنمل» طبعاً ليس في الفيلم لا كلب ولا أندلسي.. إنما هي تتابع مشاهد كابوسية، حبكت بمهارة فائقة لتصدم المشاهد، الفيلم استهوى السرياليين واعتبروه بمثابة بيان سريالي آخر!‏‏
أدخل «كلب أندلسي» مخرجه بونويل في المجموعة السريالية التي تحمست له ومن أسماء المجموعة التي تحدث عنها في صفحات طوال من مذكراته «ماكس إرنست» و»بول إيلوار» و»تزارا» و»أراغون» و»رينيه شار» و»بيكاسو» و»كوكتو» وغيرهم.‏‏
وعن المجموعة السريالية يكتب بونويل: «ومثل باقي أعضاء المجموعة فقد كنت أشعر بميل نحو تصور معين للثورة، لم يكن السرياليون إرهابيين ولم يكونوا من ذوي النشاطات المسلحة بل كانوا يكافحون ضد مجتمع يكرهونه مستخدمين الفضيحة كسلاح رئيسي، ضد عدم المساواة الاجتماعية، واستغلال الإنسان للإنسان، كنا نرى في الفضيحة، لوقت طويل، عامل كشف فعالاً قادراً على إصهار تلك الوسائل السرية والكريهة التي يستخدمها النظام الواجب تهديمه».‏‏
«كثيراً ما أسأل ماذا كانت السريالية، ولا أدري بماذا أجيب؟ أحياناً أقول بأن السريالية قد نجحت فيما هو هامشي، وفشلت فيما هو أساسي «أندريه بروتون» و»إيلوار» و»أراغون» يعتبرون من بين أفضل الكتاب الفرنسيين في القرن العشرين.‏‏
«ماكس إرنست»، «ماغريت» و»دالي» يعتبرون من بين أكثر الرسامين قيمة وشهرة ويحتلون مكاناً جيداً في جميع المتاحف لكن المجد الفني والنجاح الأدبي كانا الشيئين الأقل أهمية بالنسبة إلى معظمنا. دخلت الحركة السريالية وعن غير قصد ومن الباب العريض في جميع الفهارس السنوية للأدب والرسم، أما ذلك الأمر الذي ترغب به أكثر من أي شيء آخر، رغبة متسلطة غير قابلة للتحقيق فهو تغيير العالم وتبديل شروط الحياة وفي هذا الأمر ـ الأساسي ـ يكفينا إلقاء نظرة حولنا لكي ندرك مدى إخفاقنا».‏‏
فيلم بونويل «العصر الذهبي» 1930 رافقته ضجة هائلة فالمعركة التي أحدثها الفيلم الهدام في استوديو 28 والهجوم اليميني عليه، وأمر المصادرة الذي أصدر بحقه تشير إلى إرادة الرفض السريالية يقول بونويل عن الفيلم: «كان العصر الذهبي بالنسبة إلي وبشكل خاص، فيلماً عن حب مجنون عن قوة دفع لا تقاوم تعمل في كل الظروف على دفع الواحد باتجاه الآخر الرجل والمرأة اللذان لا يمكن لهما أن يلتقيا على الإطلاق».‏‏
في «العصر الذهبي» صور ومشاهد غير مألوفة، حيث نرى الأسقف والزرافة مقذوفين من النافذة، وعربة تقتحم صالون الحاكم، وعظاماً وهياكل بشرية قرب الشاطئ، والشاعر جاك بريفير وهو يعبر الشارع، وبقرة تبرك فوق السرير، بعين مفتوحة، ربما كانت هي العين التي قال عنها دالي: «إن العين الواسعة للبقرة يمكن أن تعكس في بياضها الناصع صورة مصغرة لمنظر طبيعي»، كما قال: «إن السينما يمكن أن تعرض حبة السكر على الشاشة كما لو كانت أكبر من منظر أبنية عملاقة».‏‏
وبفضل ورقة يانصيب رابحة استطاع تصوير الفيلم الوثائقي المؤثر «أرض بلا خبز» 1932 الذي أثار هيجان اليمين الإسباني وانتهى إلى منعه. وتوقف عمله مع بداية الحرب الأهلية في الإنتاج حيث انحاز إلى جانب الجمهوريين وخدم الجمهورية الإسبانية من خلال سفارتها في باريس ثم سافر إلى هوليوود ليعمل في قسم الأفلام الوثائقية الموجهة لأمريكا اللاتينية وعام 1946 مثل الكثير من المنفيين الإسبان اختار بونويل المكسيك لتكون موطناً ثانياً له.‏‏
ما بين عامي 1946 و1964 بدءاً من «الكازينو الكبير» وحتى «سيمون الصحراء» حقق في المكسيك عشرين فيلماً من مجموع أفلامه البالغة اثنين وثلاثين.‏‏
ومن بين هذه الأفلام يحرز فيلم بونويل «المنسيون» جائزة الإخراج في مهرجان «كان» 1950 وقد عالج وبطريقة غير معتادة موضوع الأطفال الفقراء الذين يعيشون على هامش الحياة في المدن الكبرى.‏‏
في المكسيك تصدى لموضوع يمس الدين هو «نازارين» الذي جمعه لأول مرة بالممثل الإسباني الكبير فرانشيسكو رابال، الذي سيسير معه بعد ذلك في مشوار سينمائي طويل وخصب. وفي 1955 غادر بونويل المكسيك، عائداً إلى فرنسا.‏‏
وعقب أحد مهرجانات «كان» تم الاتصال بيونويل ليخرج فيلماً في إسبانيا فكانت قنبلته الموقوتة «فيريديانا» 1961 الذي تسبب في إسبانيا بفضيحة كبيرة إذ بعد أن كان قد حاز في مهرجان كان على السعفة الذهبية، منع في إسبانيا وأقيل المدير العام للسينما لأنه صعد إلى المنصة في «كان» واستلم الجائزة ومنعت الحكومة الإسبانية عرضه. وفي المكسيك صور بونويل فيلمه «الملاك المدمر» 1962 ثم حقق عام 1964 فيلماً حول الشخصية المدهشة «القديس سمعان العمودي» ناسك القرن الرابع الذي أمضى أكثر من أربعين عاماً فوق عمود في صحراء سوريا.‏‏
مع انتقاله للإقامة والعمل في فرنسا، والعيش في أجواء أكثر تحرراً وتقبلاً لشطحاته الفنية ورؤاه الجمالية، رأى أنه من الممكن العودة إلى صياغاته السريالية، فبدأت مرحلة جديدة وملونة في حياته الفنية. وقدم خلال عشر سنوات من 1967 إلى 1977 ستة أفلام هي: حسناء النهار»1967» درب التبان «1969» تريستانا «1970» سحر البورجوازية الخفي «1972» جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي. شبح الحرية «1974» هذا الشيء الغامض للرغبة « 1977 «.‏‏
«مع اقتراب أنفاسي الأخيرة.. يبقى شيء واحد آسف له، هو عدم معرفة ما سيجري.. وأعترف أخيراً: على الرغم من كل كراهيتي للإعلام، إلاّ أنني أتمنّى أن أكون قادراً على النهوض من بين الأموات، مرّةً كل عشر سنين، لأذهب إلى أحد الأكشاك، فأشتري مجموعة من الصحف ولا شيء آخر، وأعود إلى المقبرة حاملاً صحفي، بوجهي الشاحب، متّكئاً في طريقي على الجدران، فأقرأ عن كوارث العالم، قبل أن أعود إلى النوم، راضياً، في ملاذ القبر المريح».‏‏
لعبت حياة لويس بونويل المضطربة القلقة المتغيرة دوراً رئيسياً مهماً انعكس على أفلامه المدهشة. وأصبحت مرجعاً لا بد من الوقوف أمامه لتفسير الأسئلة الكثيرة والمحمومة التي يطرحها هذا العبقري في أفلامه.‏‏
*الملحق الثقافي ـــ الثورة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق