أجرى الحوار: جيوفاني جرازيني
ترجمة: أمين صالح
مقدمة
في هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن حوار مطوّل أجراه- في بداية الثمانينات من القرن الماضي- الناقد السينمائي الإيطالي جيوفاني جرازيني مع فدريكو فلليني،و هو واحد من أكثر المخرجين شهرة و تأثيرا في السينما العالمية، و من الذين صاغوا عبر أفلامهم البارزة و الهامة عالما خاصا و متميزا تجسدت فيه رؤيته الفنية و الفكرية.
في هذا الكتاب يعبّر المخرج الكبير عن رؤاه و وجهات نظره و مواقفه تجاه شؤون الحياة و الفن. كما يقدم بسخاء شديد، لكن بمراوغة صريحة، ما تمليه الذاكرة و المخيلة، مستحضرا طفولته و مراحل مراهقته و شبابه.. بكل ما يتصل بها من دعابات و مخاوف و أحداث و ظواهر.
و مثلما تتسم صوره السينمائية التي يخلقها في أفلامه بالتعقيد و التشابك، كذلك تبدو تصريحاته و رواياته.. ذلك لأن الحياة، بالنسبة إليه، هي تفاعل متواصل بين الواقع و الخيال، بين ما هو ظاهر على السطح و الغموض الكامن في الأسفل.
فلليني، التلميذ الصغير، يكون حاضرا بدنيا في غرفة التدريس، بينما ذاته الباطنية تجول و تطوف في أنحاء بلدته ريميني و تفرّ لتنضم إلى عالم السيرك.
فلليني، المخرج المبدع، يسجل صور الحياة اليومية، بينما يعيد تشكيلها بحيث تتفق و تنسجم مع أحلامه.
فلليني، المعلق البارع، ينكر معرفة كل العوالم باستثناء عالم السينما، مع ذلك يمضي في تحليل تلك العوالم الأخرى بادراك شديد و نفاذ بصيرة حادة.
الشباب و الشيخوخة، الدين و السياسة،السيكولوجيا و الرمزية، إيطاليا و هي ترشح و تتقطر، الواقع و هو يتحول إلى حلم..كل هذه الأمور تكون مصفاة من خلال العدسات المزدوجة لرؤيته الخاصة.
الأسئلة ليست تقليدية، ليست "صحفية" لملء حيز معين حول نشاط فنان و آرائه، إنما هي مصممة ببراعة لاستنباط ردود ذات عمق و سعة في أفق التفكير. و من هذه الردود و الاستجابات تتفتح، إلى حد ما، دواخل و بواطن هذا السينمائي الفذ، إضافة إلى غنى و خصوبة عوالمه،تخيلاته، ذكرياته، و انطباعاته.
إجابات فلليني تحمل ثقلها و خفتها معا، في مزيج بارع و سلس.. و الثمرة النهائية كتاب فني و فكري فريد و ملفت..نظرة قريبة جدا من الحياة و الفكر.
ثمة حسناء تعبر الميدان
* لقد تجاوزت الستين.. هل تقلقك الشيخوخة؟
- آه، أجل. عمري 64 عاما.. أكرر هذا مرارا لأقنع نفسي به، مع ذلك أواظب على الإنصات بأذني الباطنية لأعلم إن تغيّر شيء، أو أصابه الصدأ أو العطب. باختصار، لأسمع ما يشعر به و يفكر فيه شخص بلغ الرابعة و الستين.
عندما جئت إلى روما لأول مرة، سكنت في نزل، و كان جاري عامل في الأربعين تقريبا لكنه يحاول جاهدا أن يبدو أصغر سنا، فقد كان يذهب إلى الحلاق يوميا، و يستخدم كمادات و طلاء لشد بشرة الوجه. و في أيام الآحاد كان يقضي كل وقته في الفراش، و قبل أن ينام، يضع شريحتين من اللحم النيئ على خديه و يثبتهما برباط مطاطي. و في الصباح، غالبا ما كنت أراه يخرج من غرفته مرتديا الروب، يغلق الباب، يقف بلا حراك لعدة ثوان ممسكا بمقبض الباب ، ثم فجأة يعيد فتح الباب و يقحم رأسه داخل الغرفة.
هذه الحركة كانت تثير فضولي، فسألته يوما عن السبب الذي يجعله يفعل ذلك. في البداية بدا أنه غير راغب في إخباري، لكن بعد حين نظر مباشرة في عينيّ و قال أنه بإقحام رأسه على نحو مباغت و سريع، بعد إغلاق الباب للحظة، إنما كان يحاول أن يكتشف من خلال الشم ما إذا كانت هناك رائحة شيخوخة عالقة في الغرفة. بعد ذلك دعاني لأن أتحقق بنفسي. فتح الباب على مهل و قال:" تنشق.. هل تشم نتانة رجل عجوز؟"
في كل مرّة أغادر غرفة نومي أتذكر ذلك الشخص. حتى أنني جربت نظريته أكثر من مرّة، حيث كنت أفتح بابي فجأة، مباشرة بعد مغادرتي للغرفة، أطل بالداخل، أتشمم و قلبي يخفق بشدّة.
سيمون دي بوفوار كانت محقة تماما حين قالت:" الشيخوخة تمسك بك على نحو مباغت". حتى وقت قريب، كنت الأكثر شبابا في أي تجمع، أي ملتقى، أي حفلة عشاء. كيف حدث أن أصبحت في غضون ساعات قليلة – لنقل في يوم أو أسبوع- الأكبر سنا؟ مع ذلك لا أشعر أنني تغيرت حتى و لو قليلا..ربما أعاني بعض الشيء من الأرق، القليل من الهفوات في الذاكرة، إحساس بعدم الرغبة في شيء، حيث أضطر في الخامسة مساء إلى إلغاء مواعيد السهرات و الحفلات التي خططت لها صباحا.
لو تعيّن علي، كمخرج، أن أقدم على نحو واقعي شخصية رجل في الرابعة و الستين، فسوف أنصح الممثل بأن يسير مطأطئ الرأس، محني الكتفين قليلا، و أن يسعل بين الحين و الحين، و أن ينظر بعينين نصف مغمضتين، و أن يضع يدا مرتجفة على أذنه.. مثلما كنت أفعل مع صديقي كاتب السيناريو إنيو فلايانو قبل ثلاثين سنة عندما كنا نستمتع معا في الحديقة العامة و نهرّج متظاهرين بأننا عجوزان، فنغازل الفتيات و نبدي إعجابا صبيانيا بهن. أما بنيللي، الذي سيصبح مخرجا في المستقبل، فيراقب و يضحك، لكن قليلا، لأنه كان يكبرنا سنا.
لكن لماذا نبدأ حوارنا بهذا السؤال؟
* هذه السلسلة من الكتب تعنى خصوصا باللقاءات المطوّلة مع السياسيين و الكتّاب و الفلاسفة والمفكرين و العلماء.. أنت أول فنان سينمائي يقع عليه الاختيار لهذه السلسلة.. بم تشعر و أنت في صحبة هؤلاء؟
- أشعر بأنني خارج حقلي. أشعر بالارتياب و عدم الاقتناع. قد يبدو هذا ضربا من التظاهر بالتواضع الزائف، لكنه ليس كذلك.
لا يبدو لي بأني تغيرت كثيرا عما كنت عليه في السابعة عشرة من العمر وقتما كنت أنغمس في الحياة بفضول و لهفة، إن لم يكن بطيش، مؤجلا إلى اليوم التالي استشراف الحياة بجدية و مسؤولية أكبر.
حتى هذه اللحظة، يبدو لي حاضرا و حقيقيا، على نحو مخجل، ذلك الإحساس الذي ينتابني و أنا أنتظر بتوق شديد صوت الجرس معلنا نهاية اليوم الدراسي. كانت هناك دروس مبهجة أحيانا، لكنني كنت أفكر: ترى ماذا يحدث، لحظة جلوسي في الفصل، هناك في الخارج، في الميدان أو على الجسر أو في سوق السمك أو على ضفة النهر؟ كنت دائما أشعر أن في غيابي تقع أحداث و لقاءات و قصص آسرة و استثنائية.
حتى في هذه اللحظة، و أنا أجلس معك يا سيد جرازيني، لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير بأن ثمة امرأة باهرة الحسن سوف تعبر ميدان سان سلفسترو في هذه الدقيقة.. لم لا نذهب إلى هناك و نرى بدلا من الجلوس هنا و إدارة الحوار معي؟ ما جدوى كل هذه الشعائر المملة من الأسئلة و الأجوبة؟
* لأنهم لم يخترعوا بعد وسيلة أفضل للنظر داخل مستودع الفنان.. و المرء لا يسأم أبدا من التنقيب في مستودعك..
- ربما لاحظت بأنني أثرثر بحرية لمدة نصف الساعة بعد كل سؤال، لذا فإن ما سوف أخبرك به الآن قد يشي بالتناقض.
في الحقيقة أنا لا أعرف أبدا ما هو الشيء المناسب الذي ينبغي قوله، ذلك لأنني لست واثقا من حقيقة و طبيعة هذا الذي أنت تحاوره. ما أعنيه هو أن المظهر الأكثر إرباكا و تعقيدا و ازدواجية لأي مقابلة هو واقع أن الشخص الذي تحاوره لابد و أن ينتحل كينونة شخص آخر، شخص يعرف كل شيء، يمتلك أفكارا كونية و رؤية ثاقبة للعالم.. شخص يستطيع أن يتكلم بثقة عن الوجود و الدين و السياسة و الحب و حمالة البنطلون.
شخصيا، ليست لدي أفكار كونية، و اعتقد أنني أكون في حال أفضل عندما لا امتلكها. و لهذا أشعر بالقلق و الاضطراب في المقابلة التي تقتضي مني التعبير عن كل تلك الأفكار.
مع تقدمي في السن، تقل حاجتي لفهم – بمعنى عقلنة- صلتي بالواقع.. على الأقل هذا ما أشعر به. أنا لا أرجو أن أنظم العالم. و القليل مما أريد قوله، حين يتعيّن علي ذلك، أحاول أن أنقله في أفلامي التي أستمتع كثيرا بتحقيقها. هكذا سترى بأنني لن أجيب على الكثير من الأسئلة، و إذا فعلت فسوف أختبئ وراء قصص قصيرة و عادية أخترعها في اللحظة.
و عندما تنهي هذا الكتاب، سوف أرغب في مراجعته، تصحيحه، أن أشطب أسئلة و أجوبة و أعيد كتابتها، و ربما سأحاول أن أمنع نشر الكتاب.
إننا نواجه زمنا بائسا، مخيبا للآمال، غاضبا، مشاكسا. و ربما نتخاصم – أنا و أنت- و لن يكلم أحدنا الآخر.. حسنا، لنواصل حديثنا.
* على طاولتك أحصيت 129 قلم حبر جاف، 21 قلم رصاص، و 18 قلما من نوع آخر..عدد هائل من الأقلام.
- لدى شروعي في تحقيق أي فيلم، أقضي الجزء الأكبر من وقتي جالسا خلف المقعد، و كل ما أفعله أثناء التفكير في الفيلم هو أن أتسلى برسم الأثداء و المؤخرات. إنها طريقتي في اقتفاء أثر الفيلم، في البدء بفك المغالق و اكتشاف الغامض بواسطة هذه الخربشات. هذا أشبه بالخيط الذي يساعدك على الخروج من المتاهة.. كما في الميثولوجيا الإغريقية.
* بالمناسبة، طـُبع مؤخرا كتاب يضم اسكتشات كنت قد رسمتها في فترات متباعدة. إنه ليس عبارة عن مختارات من التخطيطات الجميلة البارعة فحسب، بل يعطي انطباعا بأننا ننظر إلى " ألبوم عائلي" لأفلامك.. إنه أشبه بدخول مستودع آكل النار، في قصة بينوكيو، و اطلاق سراح كل الدمى..
- لا أعرف من أين جاءت كل تلك الرسوم العابثة. لا أقصد أنني لم أتعرف عليها، فأنا الذي رسمتها. لقد رسمتها على الورق الأبيض ذي الحجم الكبير أثناء التحضير لأفلامي. إنه ضرب من الهوس. دائما أخربش. حتى في صغري، كنت أقضي الساعات لاهيا بأقلام الرصاص و الشمع و الطباشير. أرسم على كل الأسطح البيضاء التي تكون في متناول يدي: الورق، الجدران، المناديل، شراشف الموائد في المطاعم.. حتى رخصة السياقة تجدها مليئة بتخطيطات صغيرة. لكن في ما يتصل بالتخطيطات التي كنت أرسمها أثناء شروعي بالعمل في كل فيلم، فإنها طريقة لتدوين الملاحظات، لتثبيت الأفكار.
البعض يستحوذ على الأشياء إما باستخدام الكلمات أو عن طريق الأحاسيس، أما أنا فأخطط، أرسم سمات وجه، تفاصيل لباس، سلوكيات شخص، تعبيرات، تشريح. تلك هي طريقتي في الاقتراب من الفيلم الذي أحققه، في فهم معناه، و الشروع في النظر إليه على نحو مباشر.
في ما بعد، انتقلت هذه الرسوم، هذه الملاحظات المختزلة، إلى أيدي رفاقي العاملين معي. لقد اعتاد مصمم المناظر و مصمم الملابس و الماكيير على الاستفادة منها كنماذج تساعدهم في عملهم. بتلك الطريقة، هم أيضا بدأوا بتعويد أنفسهم على التآلف مع حالة القصة، مع طبيعتها و دلالاتها. هكذا يتخذ الفيلم إحساسا بالتوقع، و كل اسكتش يوفر شيئا مثيرا للتأمل.
ناشر ألماني، و هو صديق لي، أبدى إعجابه بالإسكتشات و أراد أن يجمعها في كتاب. و عندما قدم لي الكتاب، بعد انجازه، شعرت بالمكيدة. فضلا عن السلطة الممنوحة لها بواسطة الطباعة و الوقار المتأصل لأي كتاب، و بصرف النظر عن أناقة التصنيف والصف و الورق الصقيل، فقد كنت مشدوها لدى رؤيتي لرسوماتي كلها. إن لم تكن جميلة، فهي على الأقل ملفتة.
لقد أراد الناشر أن يصدر كتابا آخر يحتوي على مجموعات أخرى، أن يصقل تلك المقتطفات المختارة المرتجلة، التصادفية، و يجعل منها مشروعا أكثر تنظيما، أكثر وثائقية، و متلائمة أكثر مع دار النشر التي يمتلكها. و قد نجح في اقتفاء تخطيطاتي عبر الاتصال ببعض الأصدقاء و المعارف و العاملين معي، في كل مكان. مقدار وافر من الخربشات و الإسكتشات و الرسوم الكاريكاتورية و الملاحظات و الدعابات التي لم أعد أذكر إن كنت أنا من حققها أم غيري، ذلك لأنني لا احتفظ بشيء منها.
المجهول ينتظرني عند المنعطف
* دعنا نحاول رسم اسكتش سريع لسيرتك الذاتية.. هل تعتقد أنك أحرزت النجاح و الشهرة كفنان عن طريق انتقالك من مجال الكرتون إلى كتابة الأفلام؟ هل هناك خيط يربط قصتك معا؟ لنحاول كشف ذلك..لنبدأ من يوم ميلادك في العشرين من يناير 1920 ، في مدينة ريميني، تحت برج الجدي.. هل تؤمن كثيرا بعلم التنجيم؟
- أميل إلى الإيمان بكل ما يثير المخيلة و يقترح رؤية آسرة أكثر للعالم و الحياة، أو بالأحرى، رؤية أكثر تجانسا مع أسلوبي الخاص في العيش.
التنجيم نظام محرّض جدا، و طريقة ممتعة لتفسير معنى الأشياء، كيفيتها و أسبابها. و إذا كان هناك من يشعر بالحماية التي يوفرها هذا النظام الذي يملك أساسه المنطقي الخاص، فما الغاية من تضليله بالقول أن هذا شيء خيالي سخيف، و أنه لم يعد ممكنا اليوم الإيمان بمثل هذا الهراء؟
لا يبدو لي أن الأمور تتغير كثيرا في دواخلنا. نحن نستمر في حيازة أحلام مماثلة لتلك التي حلم بها البشر منذ ثلاثة أو أربعة آلاف عام. و في مجابهة الحياة، لدينا جميعا المخاوف ذاتها دائما. أنا يروق لي أن أخاف. الخوف شعور حسّي يمنح متعة لطيفة. كنت دائما مفتونا بكل ما يخيفني. أظن أن الخوف إحساس صحي، ضروري للاستمتاع بالحياة. من السخف و الخطورة أن يخلـّص المرء نفسه من الخوف. المجانين لا يشعرون بالخوف، كذلك المخلوقات السوبرمانية في الرسوم الهزلية، و الأبطال الخارقين أيضا. في المدرسة كنت، على نحو غريزي، أكره أخيل..بطل الأوديسة الأسطوري. كيف يمكن لشخص أن يكون غير بشري إلى هذا الحد، و لا يخاف أبدا من أي شيء؟
هذا لا يعني بأنني أستشير الأبراج في الصحف الأسبوعية لكي أعرف من سوف ألتقيه في الظهيرة، أو أرمي القطع النقدية في الهواء لأحسم أية ربطة عنق سوف ارتدي صباحا. في الحقيقة أشعر بالأمان أكثر في حضور ما لا أعرفه، و أكون مطمئنا أكثر في الحالات الغامضة، الملتبسة، الخفية إلى حدٍٍ ما. و بحكم طبيعتي هذه، فإن ما هو غير عادي و مجهول و مدهش، أو لنقل بتواضع، ما هو غريب، غالبا ما ينتظرني عند منعطف ما في الطريق. لذلك أقر بالمظهرالتنجيمي، و القوى الخفية، و جلسات استحضار الأرواح.
عندما كنت أستعد لتصوير فيلمي " جولييت و الأرواح"، شهدت جلسات الاستحضار مع أشخاص شديدي الحساسية تجاه الوسائط الخارقة و موهوبين بقوى استثنائية تؤهلهم لتخريب اليقين الذي لا يتزعزع عند بعض الأصدقاء الذين غالبا ما كانوا يتهكمون على نزوعي إلى الاستثارة من قبل كل ما يمكن أن يكشف الشكل الأنقى للواقع.
إلى جانب ذلك، أشهد أنني كنت طرفاً في أحداث غير قابلة للتفسير. في طفولتي كنت أرى فجأة علاقات بين الألوان و الأصوات. عندما أسمع ثورا يخور في مخزن جدتي، كنت أرى بساطا كبيرا، بنيا ضاربا إلى الحمرة، يطفو فوقي في الهواء. كان يقترب، يتراجع، يصغر، ثم يصبح شريطا رقيقا يندس في أذني اليمنى. عندما يقرع الجرس ثلاث مرات، كنت أرى ثلاثة أقراص فضية تفصل نفسها عن الجرس و تدنو مني، فيما أهدابي ترتعش، لتختفي داخل رأسي. أستطيع أن أستمر في تذكر تلك الوقائع لنصف ساعة أخرى. عديدة هي التجارب " المتزامنة" التي تحدث لي.
* إنه يونج، إن لم أكن مخطئا، الذي في حديثه عن " التزامن"، لا يشير فقط إلى الأفعال التي تحدث في وقت واحد، و إنما أيضا إلى الظواهر الأكثر غموضا، و التي يتعذر تعليلها.
- أعتقد أن يونج، في تحديده للتزامن، كان يعني الروابط بين أحداث خارجية و حالات باطنية و التي، على ضوء المنطق، لا ينبغي أن تملك علاقة مباشرة في ما بينها. لكن بسبب اختلافها الظاهري تتخذ تلك العلاقة أهمية عميقة.
ربما أنا هنا لا أوضح نفسي جيدا، ما أعنيه هو أن يونج، في الكشف عن فكرته، حاول أن يبيّن لنا أن بإمكاننا بلوغ فهم أعمق للروابط بين العالم الخارق و المادي. لكن الغالبية منا تشعر بالتشوش و العجز إزاء كل ما لا يمكن التحكم فيه بواسطة الحواس و العقل، إلى حد أن تلك الاستبصارات التي تنبع من الأعماق، تلك الرسائل، التحذيرات، النصائح التي لا يقدمها لنا حتى أكثر أصدقائنا ذكاءً و عنايةً، تصبح عرضة للتجاهل و الإهمال على نحو تام. نحن لا ننتبه لها، لا نبالي بها، لا نرغب في الإصغاء إليها، و يتبلـّد ذهننا و حسّـنا إلى حد أننا لا نعود نستقبلها.
على أساس التجربة التزامنية اخترت الممثل الإنجليزي فريدي جونز لدور رئيسي في فيلمي " و السفينة تبحر". كنت مشحونا بالارتياب تجاهه. تأملته من جميع الجوانب و الزوايا، و لم أستطع أن أقنع نفسي بأن هذا الممثل ذو الشعر الأحمر و البشرة الحمراء قادر أن يتحوّل إلى شخصية أورلاندو.. الصحفي الإيطالي المهرج و المحبوب. تفحصت مئات الصور الفوتوغرافية له، و أجريت له اختبارين، لكن دون جدوى. و بينما كنت أرافقه في السيارة المتجهة إلى المطار، و كان نائما إلى جواري راسما بشفتيه ابتسامة صغيرة مبتهجة، نظرت إليه في ضغينة و فكرت:" لا، لا تستطيع أن تكون أورلاندو كما تخيلته".. عندها لم أر في حياتي وجها غريبا و مجهولا بالنسبة لي كما هذا الوجه. في تلك اللحظة، فوق نافذة باص عابر بمحاذاتنا، وراء الوجه الجانبي لفريدي جونز الذي كان يغط في النوم، رأيت ملصقا إعلانيا طوله عشرين مترا مطبوعا عليه بخط كبير كلمة " أورلاندو". عندئذ تلاشت كل شكوكي و قررت فورا و دونما تردد أن يلعب جونز الدور. هل شاهدت الفيلم؟ كان اختيارا مثاليا. قد يمتعض فريدي جونز قليلا عندما يعلم بأنني لم أختره لموهبته و إنما بسبب إعلان عن آيس كريم يدعى أورلاندو.. لكن هكذا جرى الأمر.
الحال نفسه ينطبق على هذه المقابلة: لقد بلغني تحذير أتمنى ألا يكون متصلا بالتزامن. هل تحب أن تسمع؟ حسنا. ها هنا كنت أجلس، في مكتبي، أنتظر أن نبدأ حديثنا، و كنت أتساءل: ما الغاية من القيام بمقابلة أخرى في حين أن كتابا صغيرا قد صدر للتو و يحتوي على الكثير من هذا الهراء؟ لقد شعرت بالحيرة و التعاسة. أ ليس من الأفضل أن ننصرف عن هذا الأمر؟
و بينما كنت مستغرقا في التفكير، وقعت عيناي على جريدة متروكة على الكرسي، و لفت نظري عنوان مقالة بالخط العريض و من كلمتين:" غلطة مميتة".. لم يكن هناك مجال لسوء الفهم. أو ربما كان هناك مجال لسوء الفهم، للالتباس، كما الحال مع كل إجابات الوحي أو الرائي (في الأساطير).. هل إجراء المقابلة يعد " غلطة مميتة"، أم عدم إجرائه؟
كتاب المرايا
* هل تشعر بأنك تنتسب إلى روما، هل أنت حقا روماني؟
- في الحقيقة، أنا نصف روماني. أمي من روما. أجيال عديدة من أهلها نشأوا في روما. أحد أقاربي، و كان مهتما كثيرا بعلم الأنساب، اكتشف أن المعلومات المبكرة عن عائلة باربيني ( اسم أسرة أمي قبل الزواج) ظهرت في سنة 1400، هناك باربيني الذي عمل في القصر البابوي في عهد البابا مارتن الخامس. كان صيدليا و تورط في قضية تسميم، و بعد إدانته حُكم عليه بالسجن ثلاثين سنة أمضاها مدربا للجرذان و العناكب. من يدري، ربما شيء من رغبتي في أن أكون مخرجا سينمائيا يمكن تتبع أثره رجوعا إلى ذلك الجد البعيد.
إذن أنا نصف روماني، و عندما جئت إلى روما في العام 1938 لأستقر فيها، سرعان ما شعرت بالطمأنينة و راحة البال أكثر مما كنت أشعرها في بلدتي ريميني. لكن ما هو الجانب الروماني فيّ؟
المعروف عن الروماني أنه شخص حسي، سخي، اجتماعي، يوجّه انتباهه نحو ما هو خارج عن الذات.. شخص محب للرفقة و المحادثة و موائد العشاء، سريع الاستجابة تجاه السعار السياسي.. و هو التجديفي الذي يعلن إلحاده لكنه يرسل زوجته و بناته إلى الكنيسة لأن شخصا ما في العائلة يتوجب عليه أن يبقى على اتصال مباشر مع ذلك الشيطان الذي خلقه الرب. وفق هذه المعطيات أو المعايير، لا أحسب نفسي نموذجا لأيٍ من تلك المزايا و الشوائب، خصوصا في ما يتعلق بالسياسة.. في هذه الحالة أشعر بأنني أنتمي إلى الإسكيمو و ليس روما.
* لكن كيف بمقدورك أن تنأى عن السياسة و لا تبدي أي اهتمام بها؟
- لست فردا سياسيا، و لم أكن كذلك. السياسة و الرياضة تسببان لي حالة من الفتور و اللا مبالاة، و تنعدم مشاركتي في أي حديث يتناول مثل هذه الموضوعات، سواء أتناء سفري بالقطار أو عندما أحل ضيفا في بيت صديق.
في الواقع، أنا لا أتباهى بهذه اللامبالاة المزمنة تجاه السياسة، بل أن ذلك يسبب لي الضيق و الانزعاج باستمرار. الأصدقاء، المجتمع الراهن، الفقر الأخلاقي.. من المفترض أن يحرضني ذلك على تبني مواقف أيديولوجية حاسمة، و أن أكون راغبا أكثر في إحداث التغيير و قهر القصور الذاتي.
الآلة التي توازن بين الخير و الشر، و التي ضمنها أعيش و أعمل، يجب أن تدور بسلاسة أكثر و بفعالية أكثر، و أن توفر العدل و الكرامة للجميع. لكن عندما يعني ذلك الدعوة إلى الفعل، النشاط العملي، الانضمام إلى التجمعات و المشاركة في المناقشات و المسيرات و المجابهات و إصدار البيانات، فإن فكرة الانخراط في ذلك العالم المنظم و المنضبط، بما يحتويه من مجادلات و مناظرات و اجتماعات، تعيدني ثانية إلى المنطقة المحايدة.
إني أرفض نشاط الكشافة ذاك، الذي نصفه يؤدى من باب الإحساس بالواجب، و نصفه كشيء يمكن انجازه بعد الدوام الوظيفي (الذي هو دائما أساس الاهتمام في "الشؤون العامة").
ربما هو فعل طفولي لامسؤول، لكنني مع ذلك أحتفي بهروبي من الخطر عن طريق الاستغراق الكلي في الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامي: تحقيق الأفلام. أدرك أن موقفي هذا قد يكون عصابيا، و قد يعني رفضا للنمو و النضوج، إلا أنني اعتقد أن ذلك مشروط إلى حدٍ ما بتربيتي و نشأتي في فترة الحكم الفاشي، و التي أدت إلى إقصائي عن المشاركة الفردية في السياسة باستثناء المظاهرات و المسيرات. منذ تلك الفترة فصاعدا، تكوّنت لدي قناعة بأن السياسة مهنة "العظماء"، يؤديها سادة مفكرون – كما تخبرنا كتب التاريخ- من أجل قدر ظاهر، من أجل مصير البشرية. هؤلاء "العظام" يتوجب أن يكون لديهم ذلك الأسلوب الهزلي، على نحو طفيف، القريب من أسلوب موسوليني، أو المظهر الجاد كما عند جيوليتي، أو يتوجب الرجوع إلى نماذج من القرن السابع عشر: كريسبي، راتازي، منجيتي، ريكاسولي البارونيت الحديدي، و أولئك السياسيين الذين نراهم واقفين دائما في البرلمان يخطبون وسط زملاء وقورين، و هم ملتحون و يرتدون سترات سوداء تبلغ الركبتين.
ربما التخوم الكابحة، المحيطة بي اليوم، ناشئة من واقع أنني لم أتنفس أبدا، في سنوات التكوّن الأولى، المعنى الحقيقي للديمقراطية خارج نماذج هي بعيدة كبعد الخيال العلمي. من دروسي الإغريقية، من الفلسفة، تعلمت الكثير عن الدولة المدينية، حكم الشعب، أثينا، الحقوق و الواجبات، أفلاطون، بيريكليس، سقراط، المنهج السقراطي.. لكن الديمقراطية كممارسة و سلوك، أو كما كنا نلمحها في الأفلام الأمريكية، فإنها لم تكن جزءا متمما من ثقافتنا.
في الأفلام الأمريكية، نجد أن من يحمي القانون هو عمدة البلدة و كل المساعدين الذين يمتطون جيادهم و يطاردون الأشرار. أو كما هو معمول في المدن الكبيرة حيث ناطحات السحاب، و الأفراد المشغولين في مكاتبهم، حيث المهن و الكرامة و الرفاهة و الحرية التي فيها يمكن التخطيط بجسارة لوجود من الطراز الأول.
أو تلك الأسطورة الأنجلو- سكسونية عن الديمقراطية التي يتنفسها أطفالهم منذ بلوغهم الستة أشهر من أعمارهم، متعلمين احترام، إن لم يكن تقاسم، قرار الأغلبية، ذلك لأن لديهم الوسيلة لأن يصبحوا أغلبية و لأن يغيروا مجرى التاريخ.
نحن ربما نفتقر إلى كل دروس الحضارة و الوعي تلك، و هذا الافتقار تركنا، بطريقة أو أخرى، مع قناعة راسخة بأن السياسة ينبغي أن يمارسها الآخرون، الذين يعرفون كيف يتعاطونها.
حتى عندما تسير الأمور على نحو مختلف مثل: اندلاع حرب، انهيار نظام، مرحلة إعادة بناء، نشوء دولة جديدة ترفعنا إلى مصاف بلدان أكثر تحضرا و تقدما و أهمية، فإن الديمقراطية تصل إلينا كشيء مسْـكر.. تحرر فجائي من حالة الإخضاع التي عشناها زمنا طويلا، قرونا عديدة. ذلك الوضع قد أصبح نوعا من الحالة البيولوجية، الوظيفة الجسمانية، العاهة الجسدية التي يصعب إزالتها أو تجاهلها. ربما لأنني عشت كل هذا الخليط.
أنظر كم أنا مشوّش عندما يتعلق الحديث بشؤون السياسة. يجب أن اعترف، مسلما بقصوري الذاتي، بأنني حتى هذه اللحظة أشعر أن أفرادا آخرين يتعين عليهم القيام بإدارة الشؤون العامة، باتخاذ القرارات، بتدبّر أمر العالم اليومي، الطارئ و العارض و سريع الزوال، حيث أجد نفسي غرّا، قليل التجربة، و غير مؤهل عضويا.
إذا كان علينا أن نسلـّم بمصائر معينة و نزعات معينة، فإنني أفهم أن الفنان، و كل شخص يكرّس نفسه للتعبير، يتحرك في مجالات مختلفة تماما و التي هي غير قابلة للتغيير، أو هي – على الأقل- أقل عرضة للتغيير أو للثورة العنيفة. ربما هي أقرب إلى حالات الروح، الحكمة، الحالات الداخلية أكثر من الخارجية. في تلك الحكاية الشرقية "صبي الساحر"، يصل الإنسان إلى كتاب المعرفة بعد عناء و مشقة ليكتشف أنه مؤلف من صفحات هي عبارة عن مرايا، و هذا يعني أن السبيل الوحيد لإحراز المعرفة هو أن تعرف ذاتك.
أنا لا أعرف ما قيمة ذلك بالنسبة لشخص يتوجب عليه يوميا أن يجابه كل المعضلات العملية: تسويات، توازنات، كوابح الوقت، كآبة، قلق، اقتراع، استطلاعات الرأي، إدارة المجتمع.
* لكن لماذا تكره الرياضة بنفس درجة كراهيتك للسياسة؟
- أعرف أن في بلد مثل إيطاليا، أجازف بتعريض نفسي للإعدام من غير محاكمة بمجرد الاعتراف بأنني لم أتفرج قط على أية مباراة في كرة القدم، لكنها الحقيقة. طوال حياتي لم أكن مهتما بالرياضة. أشعر بالضجر حين أحضر، مصادفة، مباراة في كرة السلة أو التزحلق أو سباق الجري. في صباي كنت أحيانا أتولى مهمة استرجاع الكرات التي تخرج من ملعب التنس في جراند هوتيل بريميني. كيف يمكن لرجلين يرتديان سراويل قصيرة أن يستمتعا بضرب كرة صغيرة من جانب إلى آخر، ساعة بعد ساعة؟.. كان ذلك لغزا بالنسبة لي. ذات مرة تابعت سباق سيارات كمراسل صحفي لجريدة فيرارا، و لا أتذكر منه الآن سوى الضجر المفرط و العراك الوحشي و الحوادث المروّعة. توقفت بعد تقريرين، أو بالأحرى طردني رئيس التحرير لأنني كنت أخطئ في كتابة الأسماء، و لم أكن أستخدم في الكتابة الأسلوب الرنّان، المتعاطف، و المثير للاهتمام.
ربما تفرجت على مباريات المصارعة بشيء من الاهتمام، لأنني على الأرجح كنت أعاني من مركـّب نقص، إذ نظرا لكوني نحيلا أشبه بهيكل عظمي فقد كنت أحسد أولئك الشبان بعضلاتهم المفتولة و الذين يستعرضون أجسامهم أمام الجميع و هم شبه عراة. لكن التنافس، الصراع، التحدي.. هذه الأشياء كانت تسبب لي الضجر و تجعلني عدائيا. كنت بالتأكيد أشعر بتعاطف سري مع الخاسر، فالوضع الذي يحرّض شخصا ضد آخر لتحديد أيهما الأقوى و الأشجع و الأكثر رشاقة و جمالا، هذا الوضع كان يثير لدي إحساسا بالعزلة، بالرفض، بالتمرد.
سباق الألف ميل.. هذا شيء أذكره بمتعة. فقد كان حدثا رئيسيا، مثل الكريسماس و ولادة روما و الألعاب النارية.. تواريخ تتوّج السنة بمآثر استثنائية، تواريخ كنا ننتظرها بلهفة.. مثل قدر.
أيضا مباركة الحيوانات في الكنيسة و المخصصة للقديس أنطونيوس. كان عيدا مبهجا بالنسبة لي آنذاك. النهيق، النباح، صياح الديوك، صوت الخنزير.. في منتصف ذلك ينتصب راهب مفتول العضلات سوف يتظاهر بأن الدجاج و الديوك الرومية و البط و الخنازير، هي هادئة أثناء المناسبة، لأن بخلاف ذلك هو لا يستطيع أن يباركها. كان يضع قبضته تحت خَطـْم الحمار و يزمجر:" سوف أعطيك لكمة على الرأس عوضا عن الماء المقدس".
أعلم أني استطرد و انحرف عن الموضوع الرئيسي، ذلك لأني لا أعرف ماذا أقول عن الرياضة..
* كنت تتحدث عن الألف ميل...
- آه، نعم.. الاستعدادات لتهيئة الطريق لسباق الألف ميل يبدأ عادة قبل يومين. في الخارج توضع كل المقاعد، الدكاكين تغلق أبوابها، المنازل ذوات النوافذ و الشرفات تكون مستأجرة سلفا نظرا لموقعها الاستراتيجي، أما الأفراد الأكثر فقرا فيجثمون على الأسطح. كانوا يبعثون بالرُسـُل على دراجاتهم النارية و الهوائية إلى الريف، على بعد عشرة كيلومترات خارج حدود المدينة. قبل أن يبدأ السباق بخمس أو ست ساعات كانت الشوارع تبدو خالية تماما. الأفراد يحتشدون عند المداخل أو عند النوافذ، كما لو في مقصورات دار الأوبرا. المحافظ، الكونت، زوجة السكرتير الفاشي يتفرجون عبر المناظير، و الأنظار موجهة نحو قوس أوغستوس حيث سوف تظهر السيارة الأولى. الكثيرون يلوّحون بالأعلام ، آخرون بالبطانيات. آنذاك لم تكن هناك تغطية إذاعية للحدث. لا أحد كان يعرف من الذي يفوز في السباق. الطريقة الوحيدة المتوفرة لدينا لمعرفة ما يحدث هو عندما تأتي مكالمة هاتفية تخبرنا بأن المتسابقين عبروا بارما منذ ساعة. و من هذا الخبر نستنتج حسابيا أن السيارة الأولى سوف تصل إلينا في أقل من 50 أو 70 ساعة. في غضون ذلك، الكل يبدو ساكنا و الطرقات خالية باستثناء ذاك المعتوه الذي يظهر متواثبا مثل الكنغر و يصدر ضجيجا بفمه. في وقت الشفق، سوف يأتي راكب دراجة نارية و يعلن ببوقه أن السيارة الأولى على وشك أن تصل. بعدئذ تتعالى الأصوات من كل النوافذ:" إنه بوردينو. لا، إنه كامباري. لا،لا.. بريليبيري..لقد عرفني و أومأ إلي برأسه." بعد ذلك سوف يأتي معتوه آخر، و عندما تظهر السيارة، سوف ينطلق بسرعة فائقة على دراجته محاولا في يأس أن يلحق بالسيارة التي تهدر و هو يرفع طبقا، راغبا في تقديمه للسائق بأي ثمن، صائحا:" خذ هذا الطعام، طبخته لك أمي.. إنه مفيد لك".. لكن ينتهي به الأمر إلى الوقوع في قبضة الشرطة الذين يقودونه إلى المخفر، و في الزنزانة يشاركونه الطعام الذي طبخته أمه. بعدئذ سوف يحل الظلام. عشاء بارد عند النوافذ، عناق عشاق، غناء. هكذا كانت الأحوال تمضي طوال الليل مع الهدير المخيف و وميض السيارات التي سرعان ما تبتلعها الظلام. في الفجر، حتى الأكثر لهفة و حماسة، يكون نائما. رؤوسهم مسندة إلى النوافذ، يفتحون عيونهم المرهقة عند مرور السيارات الأخيرة، فيتساءل أحدهم:" سيارة من هذه التي مرّت؟".. و الردود تصير أكثر فحشا.. و عند السابعة صباحا، ينتهي كل شيء.
الإصغاء إلى صمت الزمن العابر
* حدثنا عن أيام الدراسة.. هل كنت مجتهدا؟
- من روضة الأطفال إلى المرحلة الابتدائية لا أتذكر شيئا. آه، نعم.. في الروضة كانت هناك راهبة من أخوات سان فنسنزو، اللواتي يرتدين عباءات من أجنحة النوارس: كانت حليقة الرأس، مثل المحكومة بالسجن في الرسوم الهزلية، و وجهها كان دائما أحمر. لا أستطيع أن أحدد كم كان عمرها، ربما 15 أو 20 سنة. ما أذكره أنها كانت دائما تحضنني و تعتصرني. كانت تحتك بي و تجذبني إلى جسمها الذي له رائحة قشور البطاطس، و المشبّع بنكهة حساء فاسد، و تلك الرائحة التي تميّز أردية الراهبات. ذات يوم و أنا ملتصق مثل دمية صغيرة بذلك الجسم الكبير، الصلب و الدافئ، شعرت بالدوار، بإثارة، بوخز خفيف على طرف أنفي من فرط الاهتياج. لم أكن أعرف سببا لذلك، لكن كاد يصيبني الإغماء من المتعة. ذلك كان، كما اعتقد، انفعالي الجنسي العنيف و الأول، لأن - حتى يومنا هذا- رائحة قشور البطاطس تسبب لي بعض الوهن.
في المدرسة الابتدائية، كان مدرسنا جيوفانيني يختفي كل كريسماس و أعياد الفصح خلف أكداس من الهدايا التي كنا نجلبها نحن الأشبه بأفراد عبيد، مهزومين، الراكعين في خشوع أمام مذبح الطعام، متكلفين الابتسام . كان بوسعنا أن نسمع صوته وراء أكوام من الجبن، السلال المليئة بالدجاج، صناديق النبيذ، البط و الديوك الرومية. ذات مرة،رأينا ستاشيوتي، الطالب الكسول الذي لا يزال في المرحلة الثالثة رغم أنه في السادسة عشرة من عمره، يدخل الفصل حاملا خنزيرا صغيرا حيا، و في تلك السنة، و بفضل الخنزير، ارتفع إلى صف أعلى. أنا أيضا انتقلت إلى صف أعلى بفضل جبن بارما الممتاز(و هو جبن جاف حرّيف) و الذي جلبه أبي هدية إلى الأستاذ.
لقد حكيت الكثير عن أيامي في المدرسة الثانوية في فيلمي " أماركورد"، و من هذا الفيلم تستطيع أن تكتشف بأنني لم أتعلم إلا القليل من المدرسة. لكن لكي أكون منصفا أقول بأني استمتعت كثيرا.
لم أستفد من دراسة اللغة الإغريقية، اللاتينية، الرياضيات، الكيمياء. لم أعد أتذكر شيئا من هذه الدروس، لكنني تعلمت أن أنمّي روح الملاحظة، أن أصغي إلى صمت الزمن العابر، أن أتعرّف على الأصوات و الروائح البعيدة القادمة عبر النوافذ مثل سجين يعرف المدة التي يستغرقها ذلك المثلث الصغير من شعاع الشمس حتى يصل إلى سريره، أن أميّز جرس كنيسة دومو عن جرس كنيسة سانت أغوستينو.
لدي ذكريات سارة عن كل الصباحات و فترات ما بعد الظهيرة التي كنت أبددها في كسل، دون فعل أي شيء، ممددا ساقيّ تحت المقعد، منظفا أظافري بطرف القلم، و مستغرقا في أحلام اليقظة عن فولبينا التي تمارس الحب مع البحارة خلف سلسلة من صخور الشاطئ.
* إذن المدرسة بالنسبة لك كانت مكانا للرصد و الملاحظة..
- ربما في المدرسة اكتسبت تدريجيا ذلك النزوع الكاريكاتوري، الهزلي. تلك الطريقة الخاصة في النظر إلى الناس بتهكم.. هذه النزعة التي غرسها فيّ أولئك المدرسين طوال مراحل الدراسة. كانوا حقا مضحكين و مثيرين للشفقة رغم صراخهم المتواصل، عيونهم البرّاقة خلف نظاراتهم، إهاناتهم و تحقيرهم لنا، تمزيقهم لواجباتنا المنزلية كما لو أنها تتضمن هرطقات شائنة، تهديداتهم الزاعقة بلهجة مجهولة:" يتوجب أن تكونوا في السجن، في مصح عقلي، لا في مدرسة".
على الرغم من تلك المواقف و السلوكيات العصابية، الفصامية، أو ربما بسبب ذلك، كنت أشعر بميل كبير تجاههم. كانوا يتكلمون بنبرات و لهجات لم نسمع عنها من قبل، إلا ربما في بعض السجون من شرطي "جنوبي". و الجنوبيون، بالنسبة لسكان ريميني، هم القادمون من ماتيرا، ريجيو كالابريا، سيراكوسه، نابولي.أحد زملائنا في المدرسة جاء من أنكونا، و كنا نسميه الجنوبي، و في كل مرّة يسمع منا هذه الكلمة ينخرط في البكاء. في الحقيقة، عندما نتحدث نحن بلهجة ريميني كنا أيضا نتعرض لسوء الفهم، و نثير سخرية الآخرين الذين يشبّهوننا بالصيني الذي يتكلم بلغته و رأسه تحت الماء.
لكننا كنا ننفجر في ضحك وقح عندما يقرأ لنا الأستاذ دي نيتيس شيئا من جحيم دانتي، جاعلا الفصل يدوّي بإيقاع لهجته المنتسبة إلى بارليتا. ربما في المدرسة أيضا تعلمت بأن هناك أنواعا من الإيطاليين، و أجزاء صغيرة عديدة من إيطاليا، كل جزء يختلف عن الآخر.
* بما أنك ذكرت جحيم دانتي، أود أن انحرف قليلا عن المسار و أسألك إذا كان صحيحا أنك تلقيت العديد من العروض، من قِبل المنتجين الأمريكان تحديدا، لتحويل "الكوميديا الإلهية" إلى فيلم؟.. السينما كانت دائما ترى في قصيدة دانتي إغواءً لا يقاوَم..
- نعم، هذا صحيح. لقد تلقيت هذا العرض في ثلاث أو أربع مناسبات، و دائما كانت وجوه الأطراف المشاركة في الاجتماع تتمدد في خيبة أمل، عاجزين عن فهم موقفي الرافض. إنه أمر خطير، خطير جدا و لا يمكن اغتفاره، أن أقول لا لمشروع شامخ كهذا. آخر مرّة، حاول منتج أمريكي ضخم، و جدير بأن يُحب، أن يقنعني بأنني الوحيد القادر على جعل الأمريكان يفهمون ما كان دانتي يفعله في الجحيم.
المشروع مغرٍ. و أود أن أحقق نصف ساعة من الصور المجنونة و الفصامية، الجحيم بوصفه بُعدا ذهانيا يتسم بالاضطراب العقلي، الاشتغال على أعمال سابقة مستمدة من دانتي: سينوريلي، جيوتو، هيرونيموس بوش. أيضا اسكتشات المجانين، جحيم صغير، مقفر، غير مريح، محكم، غامض تماما.
لكن، عادة، المنتج الذي يقترح "الكوميديا الإلهية" يريد: مشاهد مفعمة بالدخان، مؤخرات عارية، وحوشا كالتي نراها في الخيال العلمي.
العمل الفني يملك تعبيره الاستثنائي الخاص به. التحويل من شكل فني إلى آخر أجده شديد البشاعة، سخيفا، لا شأن له. إني أعطي الأفضلية للموضوعات الأصلية المكتوبة مباشرة للسينما. أعتقد أن السينما لا تحتاج إلى الأدب، تحتاج فقط إلى كتّاب سينما، أعني الأفراد الذين يعبّرون عن أنفسهم وفقا للإيقاعات الجوهرية للفيلم.
الفيلم شكل فني مستقل بذاته، لا يحتاج إلى ترجمات أو تحويلات إلى مستوى و الذي، في أفضل الأحوال، سوف يكون دائما و إلى الأبد مجرد توضيح. كل عمل فني يزدهر في البُعد الذي يتصوره و الذي من خلاله يجد تعبيره. ما الذي بوسع المرء أن يحصل عليه من رواية ما؟ الحبكة. لكن الحبكة نفسها لا أهمية لها. ما يهم هو الإحساس الذي يتم التعبير عنه، الخيال، الجو، الإضاءة. التأويل. التأويل الأدبي للأحداث لا علاقة له بالتأويل السينمائي للأحداث ذاتها. إنهما منهجان للتعبير مختلفان كليا.
* مع أنك تتحدث بتعاطف و تفهّم عن أيام الدراسة، إلا أنك على ما يبدو تشعر أن النظام التعليمي كان مقصّرا في التزامه بتعليم الأطفال.. لو عُينت وزيرا للتعليم، ماذا كنت ستفعل لإصلاح النظام التعليمي؟
- لا أبناء لدي. و نظرا لانشغالي الدائم في تحقيق الأفلام فإنني أجهل طبيعة الدراسة اليوم و كيف تبدو المدارس. أستطيع أن أخمّن بأن الدراسة، بصرف النظر عن المظهر الخادع للواجهة وارتخاء الانضباط الصارم، لا تختلف كثيرا عن الدراسة في مراحل سابقة من جهة واقعها كمجال ضيق و ناقص و غير مؤهل لتحمّل مسؤولية تنمية و تطوير الطالب.
الطفل يبدأ في تلقي التعليم حين يبلغ السن الذي فيه تكون التخوم بين الخيال و الواقع، بين عالم المعرفة المفتوح و العالم اللاعقلاني الأكثر اتساعا، عالم الحلم، عالم المعنى الباطني، هي من أكثر التخوم رقة و هشاشة. مع ذلك، هي أشبه بغشاء ذي مسامات من خلالها قد تتدفق روح التغيير. هذه المرحلة، الحالة السامية، سرعان ما تختفي مع مرور الوقت. و بدلا من التعرّف عليها و التسليم بها و حمايتها كشيء ثمين، كعصر ذهبي للمعرفة و القدرة على العيش، فإن المدارس تهملها و تتجاهلها كليا. تنظر إليها في ريبة، في كراهية، لكونها تتعارض مع النظام التقليدي الذي فيه ينبغي أن يوضع الطفل.
لا ذنب لأحد في خلق هذا الوضع، إنه جزء من الكسل الذهني، القصور الفكري، الذي به نحن، بوجه عام، نخاطب مشكلات التعليم، مقتنعين بأن الطفل عبارة عن خطأ تام يجب إخضاعه للعلاج.
من جهة أخرى، نحن نتعامل مع كائن غريب و فريد، لديه الوسيلة الخاصة (التي هي بدائية لكنها محتفظة ببكارتها) و التي من خلالها يحقق اتصاله بالواقع. هو، مثل العناصر الطبيعية، يحتفظ بالمعرفة التي فقدناها. إنه يعرف الكثير من الأمور المنسية أو المجمّدة على نحو فعال من قِبلنا.
لو كان لدي ابن لحاولت قبل كل شيء أن أتعلم منه. الآباء و الأمهات عادة يفعلون النقيض، إنهم يفرضون على أبنائهم ما يعرفونه من التوافه و لا يسألونهم عن أي شيء على الإطلاق. لم أر قط أباً ينحني على ولده و يسأله عما يفعله، عما يريده، كيف تبدو له القطة، كيف ينظر إلى المطر، بم يحلم في الليل، أو لم هو خائف. نحن ممتلئون كليا بمشاكلنا الخاصة، برؤيتنا القاصرة للواقع.
كنت دائما مفتونا بهذا الكائن الصغير الغريب، بوجوهه الهزلية الساخرة، باستبداديته، بضراوته، بمظهره المتسم بالبراءة الحيوانية.
الفيلم الذي أندم كثيرا على عدم تحقيقه – و الذي هو مستحيل عمليا- يحكي قصة ثلاثين طفلا تقريبا، تتراوح أعمارهم بين عامين أو ثلاثة أعوام، يعيشون في منزل كبير يقع على حافة المدينة. ما يأسرني و يثير اهتمامي ذلك الاتصال التخاطري، الغامض، بين الأطفال. النظرات التي يتبادلونها عندما يلتقون على السلالم أو خلف باب أو في المهد أو حين يُمسك بهم مثل حزم من النباتات. إنه فيلم عن الحياة داخل منزل ضخم، و جميعهم يعكسون وجهة نظر الأطفال و تخيلاتهم. إن قصصهم عن الحب المطلق، الضغائن، التعاسة، مروية كلها على السلالم و في الممرات و في الحدائق الصغيرة.. في النهاية يأتي من يصطاد هؤلاء الأطفال، كما لو كانوا مجرمين مطاردين، يضعونهم في روضة أطفال و هناك، في اليوم الأول، يقومون بإخصائهم.
من بين كل المشاريع التي لم تنفذ بعد، تتكرر هذه القصة في البروز مع حالة من التأنيب. سيكون فيلما محركا للمشاعر و هزليا على نحو لا متناه. هؤلاء الأطفال لديهم مستودعات غنية جدا. لديهم الكثير من الأسرار التي سوف تختفي شيئا فشيئا.
* لنعد إلى ذكريات طفولتك.. أي صنف من الأطفال كنت؟
- يحدث أحيانا أن أتأمل بعض الصور الفوتوغرافية القديمة لي. ثمة صورة لي و أنا في زي بحار، واقف إلى جانب أخي، خلف أبي و أمي الجالسين على كرسي من المخمل. أذكر أنه كان علينا أن ننقل الكرسيين من بيتنا إلى ستوديو المصور الذي كان اشتراكيا و تحت مراقبة الشرطة. أمي أصرت على التقاط الصورة و هي جالسة على ذلك الكرسي و في حجرها كلبها الصغير تيتينا.. و قد اختارت له هذا الاسم تيمناً باسم الجنرال الذي كان وقتذاك يواجه مشاكل و هو على طوف جليدي في القطب الشمالي.
في صورة فوتوغرافية أخرى، أكون محشورا وسط حشد من زملاء الدراسة، فيما أؤدي دور المهرج بقامة متقوسة و ظهر محدودب مثل الممثل لون شاني في "أحدب نوتردام".
في صورة أخرى، أنا وحدي، نحيل جدا، لابساً ثوب سباحة باللون الأحمر و الأزرق و الذي يصل إلى ركبتيّ. كنت أبتسم و العينان متجهتان إلى السماء مثل فتى غرّ بريء، و شعر الرأس ملتصق ببعضه بمستحضر زيتي لتلميع الشعر.. و لا أعرف من الذي أقنعني أو بم وعدوني لكي أقبل الظهور في هذه الصورة بهذا الشكل.
عند تأمل هذه الصور: هل بإمكان أي شخص أن يفهم أي صنف من الأطفال يوجد في هذه الصور؟ هل كان طيبا؟ هل كان مخلصا؟ هل كان سعيدا؟ و ما الذي بقي من ذلك الطفل الرقيق، الأنثوي تقريبا؟
قلت في مناسبات أخرى أنني، على الرغم من وصفي غالبا بـ "مخرج الذكريات"، إلا أنني لا أتذكر إلا القليل جدا من طفولتي. لكن لكي أسعدك، سوف أسرد لك حادثة عرضية و التي، على يد محلل نفساني، يمكن أن توحي بطبيعة الشخصية، بالتوجه المهني، و حتى التلميح إلى المصير.
آنذاك كنت أحب أن أثير الشفقة، أن أبدو غامضا و محفوفا بالأسرار. كنت أحب أن يساء فهمي و لا يجد الآخرون سبيلا إلى معرفتي بوضوح، و أن أنظر إلى نفسي كضحية. ذات مرة، استحوذت عليّ فكرة انتقام لا أحد يعرف دوافعها. هيأت نفسي لمشهد انتحار: لطخت جبيني و يديّ بحبر أحمر سرقته من مكتب أبي، ثم تمددت على الأرضية الباردة جدا عند أسفل السلـّم. هناك مكثت في صمت، حابسا أنفاسي، منتظرا أن يأتي شخص ما و يطلق صرخة الرعب الأولى. قلبي كان يخفق بشدّة، و الأرضية باردة إلى حد أنني أصبت بتشنج في ربلة ساقي و صارت الساق كلها ترتجف.. و كنت أفكر:"هكذا أفضل. أن أهتز في ألم". لكنني أيضا كنت أخشى أن تراني أمي في هذا الوضع فترمي نفسها من أعلى السلـّم حزنا علي.. رجوت ألا يحدث ذلك، و بقيت مكاني بلا حراك، منتظرا، مغمورا بالمصير البائس. بعد وقت، سمعت صوت انفتاح الباب و وقع أقدام تدنو مني، ثم شعرت بضربات خفيفة على الركبة بطرف عكاز. كان عمي بوجهه الذي يخلو من أي تعبير. و من ارتفاع ستة أقدام، هي طوله،قال لي:"إنهض أيها المهرج الصغير، إذهب و اغسل وجهك".. ظننت أنني سوف أموت حقيقةً من الغيظ و من الحرج، و لسنوات طويلة كرهت ذلك العم الذكي، الذي بلا قلب.
ظل يشطر الميدان إلى نصفين
* عندما اندلعت الحرب الأثيوبية، كنت في السنة الأولى من المرحلة الثانوية.. ما الذي تتذكره من تلك الأيام؟
- رحيل المتطوعين للخدمة العسكرية من ريميني، وسط أعلام و دوارق النبيذ، و الناس ينظرون إليهم في ذهول. كنا نشاهد وجوه شبان ببزات عسكرية وعلى رؤوسهم الخوذ. لم نستطع أبدا أن نتخيلهم و الحقائب مشدودة إلى ظهورهم و في أيديهم بنادق ذات حراب. كان معهم جيجن مصارف المياه، و قد سُمي كذلك لأنه كان على الدوام يقضي حاجته في مصرف للمياه يقع خلف السجن مثيرا غضب غاسلات الملابس اللواتي كن يرشقنه بالنعال و كتل الصابون التي بحجم القرميد.
و كان معهم شيابالوس، الذي لا يمكن ترجمة لقبه لأنه فاحش جدا. و هناك أيضا ابن مدير الشرطة، و شارلي شابلن الذي كان مؤهلا لأن يصير قسيسا لولا أنه وقع في غرام فتاة كانت تبيع الآيسكريم. و هناك رودريغوس بطل الملاكمة للوزن المتوسط، و الشاب الذي فقد أسنانه نتيجة اللطمات العديدة التي تلقاها بعد أن غنى "الفتاة الصغيرة ذات الوجه الأسود".
كانوا يمضون إلى الحرب و هم يرموننا بنظرات حادة و ضارية كما لو يتهمون من بقي بالتخاذل و الجبن. مضوا وسط خليط من الأغاني الجماعية و الصرخات الهائجة الوحشية و الأعلام السوداء التي ترفرف. كان الموكب يتحرك وسط سحابة كبيرة من الغبار. و من نافذة ما، برز شخص استبد به الانفعال، إما فرحا أو غضبا، و رمى برتقالة مباشرة في وجه عامل التلغراف الذي دفعته الروح الوطنية إلى التلويح بعلم أحمر و أبيض و أخضر.
أذكر تلك الملصقات على جدران ريميني و التي تُظهر عضوا في رابطة المحاربين القدامى يحمل فأسا يحطم بها سلاسل تقيّد عائلة من السود بأكملها. و أتذكر تلك البطاقات السياحية الأولى لنسوة سوداوات بأثداء عارية.
أيضا أتذكر كيف كنا نتصرف كمهرجين أثناء الدوام المدرسي، حين نذهب في مجموعة مؤلفة من ثلاثة أو أربعة تلاميذ لرؤية مدير المدرسة، و بأصوات ترتجف من فرط الحماس و الانفعال، نطلب من الرجل الطيب أن يعطينا العلم لكي نحتفل بانتصار جنودنا البواسل الذين نجحوا ليلة الأمس في الدخول منتصرين.."أين دخلوا؟".. تساءل المدير الخنوع، الليبرالي سابقا، ذو الأنف الشاحب الكبير الذي يجعله يبدو أشبه بأرنب. و نحن، بنبرة تحذير، أجبناه:"في وافانكول، أيها السيد المدير، بالقرب من تولينتيساك."
و لابد أن المسكين كان يرتاب في أسماء تلك الأماكن التي نختلقها لكنه لم يجرؤ على الاعتراض. ذات مرّة، قال سكرتير الحزب، ف