وكالات
أثارت أزمة العلاقات بين الجزائر وفرنسا أصداء جديدة، وصلت إلى مجال صناعة السينما في فرنسا، حيث وجّهت اتهامات إلى بعض دور العرض بمقاطعة فيلم “فرانز فانون”، العمل الفني الذي يتناول سيرة الطبيب والمفكر المناضل ضد الاستعمار. وبينما شهد الفيلم إقبالًا جماهيريًا كبيرًا، اقتصر عرضه في البداية على عدد محدود من صالات السينما، مما فجر جدلًا في الأوساط الثقافية والسياسية.
أحدث فيلم “فرانز فانون” (2025) للمخرج الفرنسي جان كلود بارني نقاشًا واسعًا، حيث لم يعرض خلال أسبوعه الأول سوى في 70 صالة سينما، على الرغم من الإقبال اللافت الذي حققه. هذا العدد أثار تساؤلات عديدة حول إن كان هذا التضييق يعكس “مقاطعة ضمنية” من قبل بعض دور العرض السينمائي تجاه الفيلم الذي يعالج قضايا الاستعمار والحرية. واعتبرت أمال لوكومب، المسؤولة عن توزيع الفيلم، أن هذا التعامل ينبع من مواقف متحيزة تجاه القصة التي يتناولها العمل.
الفيلم من بطولة ألكسندر بوييه وديبورا فرانسوا وستانيسلاس مرار، يتناول كلود بارني مع فانون قصة قوية تمزج بين التاريخ الاستعماري والطب والسياسة . يستكشف الفيلم التوترات الأخلاقية والأيديولوجية التي ميزت حياة فرانتز فانون، الذي أثرت كتاباته، ولا سيما "معذبو الأرض" (1961)(Les Damnés de la Terre)، على أجيال كاملة من المفكرين والنشطاء
يقدم بارني (59 عاماً)، وهو مخرج فرنسي من جزيرة غوادلوب، عملاً سينمائياً متقناً عن تجربة الطبيب النفسي فرانتز فانون أثناء إقامته بالجزائر في الفترة ما بين 1953 و1956، في خضم حرب التحرير ضد الاحتلال الفرنسي. وانحاز لقضايا التحرر ضد الاستعمار. حيث أظهر العمل الفني نموذجًا نضاليًا غير تقليدي في مواجهة الممارسات الظالمة، وهو ما يُعتقد أنه أثار الجدل الحالي المتعلق بعرض الفيلم في فرنسا.
يعتبر بارني في حواره مع وكالة فرانس برس أن العنف الذي وصفه فانون، وهو متحدر من جزر المارتينيك، "بلغ اليوم ذروته، وأعتقد صادقاً أن علينا أن نحسم اختيارنا"، في إشارة إلى الحرب في غزة.
ويتابع موضحاً: "لا يمكننا أن نستمر في قبول الاحتلال والتمييز والاستعمار واقتلاع أشخاص من أرضهم، وتقطيع الأراضي والقتل بازدراء".
ويضيف بارني: "مؤلفات مثل تلك التي خلفها فانون يمكنها أن تعيد قليلاً من الإنصاف إلى هذا العالم".
ويستطرد: "عندما نفتقد الوسائل والبيداغوجيا والمادة اللازمة لندافع عن الكلمات الصادقة، يتعين علينا العودة لما وقع في التاريخ".
في هذا السياق يعتبر بارني أن فيلمه "يصل إلى مدى معين يستطيع من خلاله القول إن الإنصاف موجود لدينا".
تصريحات القائمين على الفيلم ألقت الضوء على تناقض سياسات دور السينما تجاه العمل. جان كلود بارني، مخرج الفيلم، عبر عن استغرابه لما وصفه بسلوك غير مبرر تجاه الفيلم. بدورها، علّقت شركة التوزيع أنه في حين تشهد صالات أخرى ازدحامًا لمشاهدة الفيلم، تتذرع دور السينما الأخرى بحجج تتعلق بالجوانب الفنية أو التجارية. هذا التباين استرعى انتباه العديد من الشخصيات السياسية، بما في ذلك النائب اليساري أنطوان ليوم، الذي تساءل عن مدى صعوبة مواجهة الإرث الاستعماري ثقافيًا.
في المقابل، نفت بعض دور السينما الكبرى، مثل “MK2″، الاتهامات الموجهة ضدها، مؤكدة على أن قرارات البرمجة تعتمد على معايير تحريرية. ومع ذلك، بدا واضحًا أن ارتفاع عدد صالات العرض المستقبلة للفيلم لاحقًا قدّ أضعف هذه التبريرات.
لا يمكن فصل هذا الجدل عن السياق العام المتوتر للعلاقات الجزائرية الفرنسية، والذي تفاقم خلال الأشهر الثمانية الماضية. . ولا يخفى أن هذه التوترات ألقت بظلالها على الشؤون الثقافية، حيث تظهر مواقف ضمنية قد تؤثر حتى على الأعمال الفنية والإنتاجات الثقافية ذات الدلالات التاريخية الحساسة.
جاءت المقاطعة التي تعرّض لها فيلم «فانون» في الصالات الفرنسية على عكس ما ابتغاه المقاطعون. فقد تصدّر كتاب فرانز فانون «معذبو الأرض» قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا على إثر المقاطعة والتضييق الذي يتعرّض له الفيلم الصادر حديثاً. هكذا، يرّد شبح فرانز فانون الصاع صاعين
في النهاية، يبرز فيلم “فرانز فانون” كرمز للجدل المستمر، ليس فقط حول الماضي، بل حول الحاضر .
وفي كلمة له خلال النقاش الذي تلا عرض الفيلم في تونس، أوضح المخرج "جان-كلود بارني" أن علاقته بفكر "فانون" بدأت في سن مبكرة (16 سنة)، حين كان شابا من أصول مهاجرة في الضواحي الباريسية حيث واجه ما أسماه بـ"الصفعة العنصرية". وقال "قراءة كتب فانون ساعدتني على فهم هويتي ومكاني في المجتمع، وقد تركت أثرا عظيما في مسيرتي السينمائية التي حاولت فيها دوما أن أعكس شخصيات ذات عمق إنساني ونضالي".
وأضاف "بارني" أن إنتاج الفيلم استغرق عشر سنوات من البحث والتطوير، واصفا المشروع بـ"الرحلة الفكرية والوجدانية". كما أشار إلى أن الفيلم لا يهدف إلى تقديم "فانون" كبطل مثالي وإنما كإنسان يطرح أسئلة مؤلمة حول الميز العنصري والعنف والتحرر والهوية. وقد أكد أيضا أن هذا النوع من الأفلام لا يحظى بسهولة دعم إنتاجه داخل الصناعة السينمائية الفرنسية التي اعتبرها ما تزال مائلة نحو الأعمال التجارية والكوميدية، لكنه عبّر عن سعادته بالاهتمام الجماهيري الذي حظي به الفيلم، معتبرا ذلك دليلا على وجود جمهور يبحث عن مضمون فكري وتاريخي عميق.
وحول إنجاز فيلم آخر عن "فرانز فانون" للمخرج الجزائري عبد النور الزحزاح وخروجه إلى السينما في الفترة نفسها (2024) مع هذا الفيلم، قال المخرج "بارني": "نحن نعيش لحظة سينمائية تتطلب التنوع لا الصدام إذ لا ينبغي أن نخاف من تعدد الأصوات بل على العكس تنوّع الأفلام هو ما يمنح الجمهور حق الاختيار والفهم. وفانون هو واحد من تلك الشخصيات التي يمكنها أن تفتح أعيننا على عوالم مهملة لكنها لا تزال تشكل حاضرنا".