رحل المخرج السينمائي السوري ريمون بطرس (1950 ــ 2020). وفور انتشار الخبر، نعاه الوسط الثقافي والسينمائي العربي. عمل الراحل في الإخراج والكتابة الصحافية والإذاعية. وُلد في مدينة حماة وهو حاصل على ماجستير في الإخراج السينمائي من أوكرانيا عام 1976. قدّم خلال مسيرته الفنية ثلاثة أفلام روائية ونحو ثمانية عشر فيلما وثائقيا وقصيرا حاول من خلالها البحث في الهوية السورية، لعل أبرزها "صهيونية عادية - 1974" و"همسات - 1999" و"خطوات - 2002" و"ترانيم - 2006"،و رصد بكاميرا هادئة أجواء الحياة التشكيلية السورية، ولا سيما في فيلمه "أنغام الخط الشامي - 2015"، إضافةً إلى تسجيل أوابد ومعالم أثرية سورية عدّة من خلال أفلامه الوثائقية "نشيد البقاء - 2004" و"على ضفاف حلب" و"أحاديث الحجر - 2004" و"مدن الأيام القادمة - 2006" و"ملامح دمشقية - 2009". ، ليختتم هذه المسيرة عام 2014 بفيلمه الروائي المتوسط "أطويلٌ طريقنا أم يطولُ"، والعنوان الذي استوحاه من شطر بيت في قصيدة المتنبي المشهورة، حاول عبره المخرج الراحل تقديم رؤية عن الأزمة السورية . اشتهر بطرس بأفلامه التي تتمحور حول مدينته ونهر العاصي، فيما عكست أعماله مدى ارتباطه بالبيئة التي وُلد فيها. من بينها «الترحال» (1997) الذي أدى دور البطولة فيه أيمن زيدان، بجانب عدنان بركات ومنى واصف وكارمن لبس, و نال الجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي عام 1997. تبدأ الأحداث من خلال عائلة مسيحية مكونة من الأم وابنتها الكبرى وأخواتها الصغار في مدينة حماة، ويذهب رب الأسرة مع المجاهدين إلى فلسطين، حيث تواجه الأسرة الصعاب كونها دون أب والذي غاب ويعتقد أنه اختفى ولن يعود. بالفيلم أضاف بطرس أبعاداً رمزية ودرامية لرمز مدينة حماة التاريخي، أي نواعير حماة، من خلال تحويل النواعير إلى مكان آمن يلتقي به عشاق المدينة.
كان "الطحالب" (1991)ثاني أفلام بطرس الروائية، الذي صوّره بعد أربع سنوات على أول أعماله الطويلة (بعد عودته من دراسة السينما في كييف عاصمة أوكرانيا) "المؤامرة المستمرة" بتمويل مشترك سوري سوفياتي، وإخراج مشترك مع "إيغور ريستينوف"، أظهر فيه مدى ارتباطه بجذوره وتأثره بمدينته حماة ونواعيرها. وحاول فيه أن يعكس صراعات الحياة على ضفتي العاصي، ضمن العائلات والقبائل الواحدة في مدينة حماه السورية، وعلى هامشها معاناة الأفراد في حياتهم المعنوية والمادية في خضم تفكك أُسَرِي، يدفع بأشقاء وشقيقات لأن يتقاتلوا حول قطعة أرض موروثة، ويُقتَل أحدهم ثأراً داخل أسوار المحكمة، وآخر يرتكب جريمة "شرف". يرصد الفيلم من خلال هذه العائلة الحياة الاجتماعية السورية المنهكة بشرورها تحت ضغط الصراع على المصالح وخواتيمها المفجعة، في ظل اقتصاد طفيلي، وطحالب تريد أن توقف تدفق مياه النهر، مستشرفا المنزلقات الخطرة التي باتت تعصف ببلده. لعب أدوار البطولة في الفيلم كل من منى واصف، أيمن زيدان، كارمن لبس، أمانة والي، ووفيق الزعيم، وحاز على الجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي السابع (1991)، وعلى شهادة تقدير من مهرجان بيونغ يانغ (1999)، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الفيلم العربي في باريس (1992).
فيلم "حسيبة" (2008) الروائي الرابع للمخرج ريمون بطرس عن رواية بالعنوان نفسه للروائي خيري الذهبي، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بدمشق بالتعاون مع "موسفيلم" الروسية. ويقدم فيه صورة إنسانية شاملة عن واقع العيش في دمشق القديمة، و تاريخاً مختلطاً من السياسة والحبّ والاجتماع، من خلال حسيبة، المناضلة في الجبل، والخاضعة للعنة القدر، والشاهدة على الخراب الإنساني والمجتمعي. تقاتل “حسيبة” إلى جانب والدها المجاهد” صياح” في الجبل ضد الفرنسيين، ولكنهما يضطران للعودة إلى دمشق بعد أن ينفض عقد الثورة، حيث يلتجأ الأب وابنته هناك إلى بيت قريبهما الشيخ حمدان الجوقدار.
تتزوج حسيبة الشيخ حمدان ومعه تبدأ (الفتاة-المقاتلة) باكتشاف حياة تخص عالمها الأنثوي لم تعرفه من قبل في الجبل إلى جانب المقاتلين الرجال، لكن علاقتها بالرجال سرعان ما تدخل في دوائر الفقد والفجيعة، فالأب يغادر تحت جنح الظلام ليقاتل في فلسطين، والزوج سرعان ما يموت، بعد أن تنجب منه ابنة، وحسرة بموت ثلاثة مواليد ذكور …هكذا يغيب الرجال من حياة “حسيبة” لتجد نفسها وحيدة مع ابنتها "زينب" في مشوار حياة محفوف بالمخاطر والقصص و اللقاءات غير المنتظرة وهواجس النجاح وإثبات الذات. إلى جانب حسيبة، ستكون هناك قصص لنساء أخريات " خالدية، مريم، وداد"، هن مثلها مفجوعات برجالهن ونار الفقد، وحيدات يبحثن عن معنى حقيقي لوجودهن. وتبرز شخصية خالدية كوجه من وجوه النساء التي تمردت جسديا أو جنسيا على الرجال رغم أنها تزوجت أكثر من مرة، وعوقبت معاقبة قاسية، وكانت فنانة تطريز، وهو الفن الوحيد الذي كان يسمح للمرأة أن تقدمه أو تمارسه في وقت سابق ويكون موتها محملا بالمأساة والجمال اذ تنقلب عليها اصص الورود التي تملأ منزلها لتغطي جسدها الميت. الفيلم ، كما الرواية المأخوذ عنها، يحتفي بالمكان بوصفه البطل الأول في الفيلم ومن خلاله سيسرد ريمون بطرس أحداث شخوصه في الفيلم ابتداء من السيناريو الذي كتبه عن الرواية، انتهاء برؤيته البصرية الخاصة لها إن الفيلم أقرب ما يكون إلى المرثية، فهو مرثية لحياتنا حاول فيه ريمون بطرس أن يقدم عبر سرد بصري مدهش الوجه النسائي في محاولة الخروج من هذا التاريخ المرعب، و التقط المرأة السورية، وبالتالي العربية، في حالاتها الحادة تماما وكيفية الخروج من تلك الأزمة التاريخية، وقد اشترك في تمثيل “حسيبة” الفنانة سلاف فواخرجي في اداء مدهش ، يصاحبها جيانا عيد، وطلحت حمدي، وسليم صبري، ومانيا نبواني، وعامر علي، وصالح الحايك، وكاميليا بطرس. والفيلم من تصوير جورج لطفي الخوري، ومونتاج محمد علي المالح، ومدته 135 دقيقة، ويعد أول فيلم سوري طويل يصور بكاميرا ديجيتال .
عاش بطرس شيوعياً حتى آخر أيامه ، إذ عمل محرراً لسنوات طويلة للصفحة الثقافية ومدير تحرير في جريدة "النور" فظلت معظم اشتغالاته في الكتابة والرسم والإخراج والترجمة منصبّة على هذه النظرية، ليقوم بإخراج مسرحية عام 1983 عن رواية "الحرب في بر مصر" للكاتب المصري يوسف القعيد، كما كتب عدداً كبيراً من المسلسلات التلفزيونية من مثل "قلوب خضراء - 1996" و"زواريب حارة منسية - 2002" و"أم هاشم - 2005"، كما عمل محرراً للأخبار في الإذاعة السورية (القسم الروسي) بين عامي (1979- 1987) وأعدَّ فيها برنامجاً أسبوعياً بعنوان "بانوراما ثقافية" وترجم أكثر من مئة وخمسين ساعة سينمائية للتلفزيون السوري، ولديه عشرات الدراسات التي ترجمها بطرس عن الروسية لصالح مطبوعات سورية وعربية.
محمد عبيدو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق