محمد عبيدو:
تعد تجربة الروائي والمخرج السينمائي السينغالي عثمان سمبين، في توظيف العلاقة بين الرواية والفيلم، تجربةً غير مسبوقة في المحصلة العامة لتاريخ الفيلم. فالروائي والقصصي السينغالي بتحويل أعماله الأدبية إلى أفلام سينمائية.
ولد عثمان سمبين بمدينة يجوينيشور عام 1923م، لم يكمل تعليمه وبدأ العمل قبل سن الثامنة عشرة كبناء وكميكانيكي ثم كسائق مع جيش الاستعمار الفرنسي بالسينغال. كان ذلك قبل الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب هاجر سمبين إلى مرسيليا بفرنسا وعمل هناك كحمال بميناء مرسيليا البحري وكان مولعاً بالقراءة فتعرف على أشهر الكتاب وعلى الكلمة وأهميتها فقضى عدة سنوات في تعليم نفسه بنفسه وسرعان ما اكتشف عثمان أن لديه موهبة الحكواتيين، وأنه قادر على توظيف تجربته الميدانية للكتابة. حتى سنحت له الفرصة للذهاب إلى موسكو لدراسة السينما هناك.
عثمان سمبين (1923 ـ 2007) الذي عرف كروائي إفريقي متميز محب للحقيقة، تحول للسينما يصنع أفلاماً وضعت إفريقيا على الخريطة السينمائية للعالم، حيث كان مفاجأة. وعلاوة على ذلك، كان سمبين معنياً باستخدام الفيلم كأداة تحرير، كوسائل لتقديم الصورة الإيجابية الإفريقية على عكس الصورة الفيلمية الأجنبية المحرفة للواقع الإفريقي. يقول سمبين في إجابة عن سؤال السبب أو الدافع الذي جاء به من الرواية إلى السينما: (إن المسألة تكمن في أن 80% من سكان أفريقيا أُميُّون، لذا فإن كتبي تقرأها الصفوة، والتي لا تتجاوز نسبتها الـ5% من النسبة الكلية للسكان).
وهو يقول: (لم أكن أعتقد أن فقري سيحول دون دخولي الجامعة، ولكن هذا ما حدث، ووجدت في الأدب الوسيلة التي تحقق رغبتي وهي الاتصال بالجماهير الأفريقية التي خرجت من بينها، وأعرف ما تعانيه جيداً، كما أعرف ما تتطلع إليه في المستقبل). عرف سمبين روائياً أولاً من خلال روايته ’’عامل الميناء الأسود’’ عام، 1956 وكانت باكورة أعماله الروائية بدأ بها سمبين يتلمّس طريقه في الأدب مستفيدًا من تجاربه الشخصية التي وظّف بعضها في الرواية الأولى حيث ركّز فيها على ثيمة التفرقة العنصرية وسوء المعاملة التي لقيها من الفرنسيين في ميناء مرسيليا. ثم تلتها بعد عامين ’’وطني ـ شعبي الجميل’’ عودة عمر، الفلاح الأسود الطموح إلى مدينته كازمنس مع زوجة بيضاء وهو مثقل بأفكار جديدة يقارع فيها المجتمع والسلطة الكولونيالية البيضاء في آنٍ معا. والثالثة ’’آلهة الخشب’’ قمع النساء واضطهادهن خلال الحقبة الكولونيالية. ثم "عامل تحميل السفن الأسود" أولى رواياته بالفرنسية، التي تعامل فيها مع العنصرية التي تواجه العمال السود والعرب والإسبان في فرنسا. وفي عام 1981 اصدر سمبين روايته الشهيرة (نهاية الامبراطورية ) وفيها يتطرق للموضوع القديم المتجدد، الصراع علي السلطة بين النخب الافريقية بعد رحيل المستعمر عن القارة واقدام المغامرين من العسكر في الاستيلاء علي السلطة بحجج القضاء علي الفساد، ثم توج مسيرته الروائية بـ’’الحوالة’’ التي ترجمت إلى لغات عالمية عدة، منها العربية، ووضعت اسمه بين كبار أدباء القارة. هذا النجاح دفعه لاقتحام مجال إبداعي اخر هو الفن السينمائي، وسبب هذا التحول كما يراه وجدي كامل صالح في كتابه (السينما الأفريقية ظاهرة جمالية) ترجمة عادل محمد عثمان، أن السينما كانت هاجساً قديماً راود سمبين منذ نعومة أظفاره. ولهذا نراه قد استفاد إلى أقصى حد من المنحة التدريبية التي منحها له اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية للتدريب في أستوديو غوركي على يد المخرج البارز الروسي مارك دنسكوي. ولكونه كاتباً وروائياً كثيراً ما كان يسأله رجال الإعلام عن سبب اختياره لهذة الوسيلة من وسائل التعبير، فكان جوابه واحداً ومتكرراً: إن الصورة لغة أشد تأثيراً وانتشاراً وسط الشعوب الأفريقية في ظل الأمية وعدم القدرة على الكتابة.
ويُخرج أول أفلامه (الحوذي). حمل فيلم الحوذي أولى القسمات والملامح ذات المنطلق الفكري التنويري والتحريضي لسامبين من فن الرواية إلى فن السينما. الفيلم ورغم التطبيقات الفنية والجمالية التي عمل على استعراضها وتوظيفها عثمان سامبين في مجمل البناء؛ وعلى الرغم من كثافة الرموز والدلالات البصرية والمؤثرات السمعية عبر الموسيقى التي انطوى عليها، وتعليقات النقاد إلى الدرجة التي تم تشبيهه فيها بأفلام الواقعية الجديدة؛ إلا أنه حمل في أفضل عناصره التكوينية جينات الخبرة الأدبية لسامبين، والتي تجلَّت في النفس السردي ولغة المنولوج الموحية المؤثرة، التي استخدمها للتعبير عن العالم الداخلي للحوذي. لقد انعكست فنيات السرد الروائي المكثف هنا، ولكن بتقنيات أخرى جديدة تعبر عن حالة الزواج الماثل بين الصوت والصورة في مثل هذا النوع من الأفلام التمثيلية أو الروائية غير الناطقة.
في فيلمه "فتاة سوداء" نتابع (ديوانا) امرأة سنغالية صغيرة، انتقلت من (داكار) بالسينغال إلى (أنتيب) بفرنسا لتعمل لحساب عائلة فرنسية من الأغنياء.. أملت (ديوانا) أن تستمر في وظيفتها السابقة كمربية أطفال متوقعة أن تعيش حياة مليئة بالحركة والسعادة، ولكن منذ لحظة وصولها إلى (أنتيب) تلاقي معاملة سيئة جدًا من العائلة التي تعمل لصالحهم، الذين أجبروها لكي تعمل خادمة طوال الوقت لديهم.. وفي ظل هذا الموقف الصعب وفي بلد غريب وبعد تفتت أحلامها في معيشة حياة أفضل، يتراءى لها أن الانتحار هو السبيل الوحيد للنجاة. يتحدَّث سمبين عن فكرة الفيلم، وكيف واتته قائلا: (فيلم "فتاة سوداء" يعكس واقعة حقيقية، وقعتْ أحداثها بمدينة مَرسيليا في العام 1958؛ حينها كنت رئيسا لاتحاد العمال الأفارقة، في إحدى المرات اتصل بي أحد الأصدقاء هاتفيا، وأخبرني عن موت فتاة سنغالية تعمل خادمة لإحدى الأسر الفرنسية. وبعدها، عرفت أن الأمر غير ذلك، وأن الفتاة قد أقدمت على الانتحار بسبب الحذين؛ كتبتُ عن ذلك قصة قصيرة، وحينما بدأت في العمل بالإخراج جالت براسي فكرة إخراج تلك القصة القصيرة؛ بحيث عمدتُ إلى أن تكون الحادثة قد وقعتْ بعد حصول السنغال على الاستقلال، وحيث كنتُ على قناعة كبيرة بأنَّ التركيب الخارجي للدولة قد تغيَّر، ولكن -وللحقيقة- فإنَّ كل شيء أمسى على ما كان عليه من حيث الاستغلال).
إن ميلودراما غابة طرزان وإهانة النماذج الإفريقية قد سادت على الشاشة الفضية السبعة عقود قبل أن يقدم سمبين أفلامه حيث فيها تجد موضوعات القوة المدمرة للسلطة والمال.. ومحاولة الناس بأن يحرروا أنفسهم من العقليات المسيطرة والتابعة للاستعمار، وتقديم البديل الإفريقي الحقيقي حيث تكتشف شعوب إفريقيا أنفسها وتعيد صياغة تراثها في المجتمع.. وهذا واضح في أفلامه مثل: "إكسالا" المستوحى من رواية لسمبين تحمل الاسم ذاته والذي يعالج، موضوع السلطة والسياسة والمجتمع الأفريقي، و"الحوالة" 1968 حيث يقدم هذا الفيلم قصة كفاح مريرة لرجل إفريقي بسيط؛ هو: "إبراهيم دينق"، هدفه الحصول على حوالة مالية بسيطة، جاءته من ابن أخته العامل في فرنسا.. كفاح مرير يدور في أروقة الحكومة ومصالحها، وعبر تلك المحاولات البائسة والمتكررة، يُبرز لنا سمبين الواقع السيئ للبيروقراطية الحكومية في بلاده، وتفشِّي ظاهرة الارتشاء، وانهيار القيم الأخلاقية الروحية للمجتمع الجديد في السنغال. وأفلام أخرى مثل “تاو” 1970،و "إمتيباي" 1971، و"خالا" 1974، المأخوذ عن رواية كتبها، والذي يروي رحلة الحاج عبد القادر بيي، لاستعادة عنفوانه الجنسي الذي تخلى عنه في اللحظة الحاسمة عندما أراد ابناء من زوجته الثالثة. ويُعلق سمبين على نجاح فيلم "خالا" قائلا: "أنا في كتابة الحكاية، كما في إخراج الفيلم، أُظهر أن البرجوازية في بلدان العالم الثالث هي برجوازية تابعة للتنظيم الرأسمالي، الذي يقوم بدور الخادم للإمبريالية". ثم "سيدو" 1977 الفيلم الأكثر اقترابا وحميمية من التراث الشعبي والحكائي الإفريقي.. وفي سنة 1988 أخرج شريطا طويلا مدته 90 دقيقة بعنوان (معسكر تيارواي) وهو من الإنتاج المشترك بين بلدان أفريقيا (السنغال، تونس، الجزائر) وشارك به في مهرجان فنسيا وحصل على جائزة لجنة التحكيم. وبمهرجان فيسباكو (للسينما الأفريقية) حصل على جائزة (معهد الشعب الإفريقي الأسود) ثم على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان قرطاج 1988م وجائزة منظمة الوحدة الإفريقية بنفس المهرجان، وهذا الشريط أيضا يتحدث عن مشاكل الحرب العالمية الثانية 1944 وتناحر الجيوش الأجنبية بما فيها النازية على أرض أفريقيا. عرض في مهرجان كان 2005 الفيلم الاخير لعثمان سمبين (مولادي)، العائد بعد انقطاع سينمائي مطوّل، حيث لم يقدّم، بسبب تقدمه في السن أي عمل جديد منذ فيلمه "فات ـ كيني" الذي عرض في العام 2000 تناول عثمان سمبين في فيلمه "موولادي" قضية اجتماعية شائكة تتمثل في عادة ختان البنات في دول أفريقيا السوداء. لكنه يطرحها بشكل مغاير تماما للخطاب الأيديولوجي الغربي الذي يرى في أطروحات العصرنة والحداثة سبيل الخلاص آليا من تلك العادات التي لم تعد تتماشى مع روح العصر. فالخلاص في فيلم عثمان لا يأتي من قبل الأجيال الجديدة المتفتحة على الحداثة والعصرنة، لأن أحدا منهم لا يجرؤ على وقف عادات الختان المقيتة، إلى أن تنبري لذلك سيدة عجوز تدعى "كولي غالو أردوسي"، تمنع سكان القرية من ختان ابنتها الوحيدة، وإذا بالقصة تنتشر بسرعة، فتتوافد البنات الخائفات من الختان، من مختلف قرى المنطقة، على بيت هذه السيدة العجوز، طلبا لحق الضيافة والحماية، وفقا لقاعدة قبلية تعرف في المنطقة باسم الـ"موولادي" (ومن هنا جاء عنوان الفيلم).
وبذلك يحاول عثمان بالأسلوب الحكائي الأفريقي المميز الذي يطبع كل أفلامه، أن يثبت بأن محاربة الجوانب السلبية التي تجاوزها الزمن في التقاليد المحلية لا يتأتى بالانسلاخ الكامل عنها للعيش وفقا للمعايير الغربية، بل يجب محاربة السلبي من التقاليد بالإيجابي منها. فالسيدة العجوز التي منحت الـ"موولادي" للبنات المستجيرات بها من الختان، استطاعت أن تصمد أمام بقية السكان، لأنهم بقدر ما يحترمون عادة الختان المتوارثة في التقاليد المحلية، يحترمون أكثر قاعدة الـ"موولادي" المقدّسة في أعرافهم. وكان عثمان سمبين، الذي توفي في التاسع من شهر يونيو/ حزيران 2007 عن سن تناهز 84 عاما، يقول دوما لطلابه إن الصورة أصدق من القلم لأن صاحب القلم قادر على فرض رقابة على قلمه. أما الرقابة المفروضة على الكاميرا فإن الصورة تفضحها بسهولة.
ولد عثمان سمبين بمدينة يجوينيشور عام 1923م، لم يكمل تعليمه وبدأ العمل قبل سن الثامنة عشرة كبناء وكميكانيكي ثم كسائق مع جيش الاستعمار الفرنسي بالسينغال. كان ذلك قبل الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب هاجر سمبين إلى مرسيليا بفرنسا وعمل هناك كحمال بميناء مرسيليا البحري وكان مولعاً بالقراءة فتعرف على أشهر الكتاب وعلى الكلمة وأهميتها فقضى عدة سنوات في تعليم نفسه بنفسه وسرعان ما اكتشف عثمان أن لديه موهبة الحكواتيين، وأنه قادر على توظيف تجربته الميدانية للكتابة. حتى سنحت له الفرصة للذهاب إلى موسكو لدراسة السينما هناك.
عثمان سمبين (1923 ـ 2007) الذي عرف كروائي إفريقي متميز محب للحقيقة، تحول للسينما يصنع أفلاماً وضعت إفريقيا على الخريطة السينمائية للعالم، حيث كان مفاجأة. وعلاوة على ذلك، كان سمبين معنياً باستخدام الفيلم كأداة تحرير، كوسائل لتقديم الصورة الإيجابية الإفريقية على عكس الصورة الفيلمية الأجنبية المحرفة للواقع الإفريقي. يقول سمبين في إجابة عن سؤال السبب أو الدافع الذي جاء به من الرواية إلى السينما: (إن المسألة تكمن في أن 80% من سكان أفريقيا أُميُّون، لذا فإن كتبي تقرأها الصفوة، والتي لا تتجاوز نسبتها الـ5% من النسبة الكلية للسكان).
وهو يقول: (لم أكن أعتقد أن فقري سيحول دون دخولي الجامعة، ولكن هذا ما حدث، ووجدت في الأدب الوسيلة التي تحقق رغبتي وهي الاتصال بالجماهير الأفريقية التي خرجت من بينها، وأعرف ما تعانيه جيداً، كما أعرف ما تتطلع إليه في المستقبل). عرف سمبين روائياً أولاً من خلال روايته ’’عامل الميناء الأسود’’ عام، 1956 وكانت باكورة أعماله الروائية بدأ بها سمبين يتلمّس طريقه في الأدب مستفيدًا من تجاربه الشخصية التي وظّف بعضها في الرواية الأولى حيث ركّز فيها على ثيمة التفرقة العنصرية وسوء المعاملة التي لقيها من الفرنسيين في ميناء مرسيليا. ثم تلتها بعد عامين ’’وطني ـ شعبي الجميل’’ عودة عمر، الفلاح الأسود الطموح إلى مدينته كازمنس مع زوجة بيضاء وهو مثقل بأفكار جديدة يقارع فيها المجتمع والسلطة الكولونيالية البيضاء في آنٍ معا. والثالثة ’’آلهة الخشب’’ قمع النساء واضطهادهن خلال الحقبة الكولونيالية. ثم "عامل تحميل السفن الأسود" أولى رواياته بالفرنسية، التي تعامل فيها مع العنصرية التي تواجه العمال السود والعرب والإسبان في فرنسا. وفي عام 1981 اصدر سمبين روايته الشهيرة (نهاية الامبراطورية ) وفيها يتطرق للموضوع القديم المتجدد، الصراع علي السلطة بين النخب الافريقية بعد رحيل المستعمر عن القارة واقدام المغامرين من العسكر في الاستيلاء علي السلطة بحجج القضاء علي الفساد، ثم توج مسيرته الروائية بـ’’الحوالة’’ التي ترجمت إلى لغات عالمية عدة، منها العربية، ووضعت اسمه بين كبار أدباء القارة. هذا النجاح دفعه لاقتحام مجال إبداعي اخر هو الفن السينمائي، وسبب هذا التحول كما يراه وجدي كامل صالح في كتابه (السينما الأفريقية ظاهرة جمالية) ترجمة عادل محمد عثمان، أن السينما كانت هاجساً قديماً راود سمبين منذ نعومة أظفاره. ولهذا نراه قد استفاد إلى أقصى حد من المنحة التدريبية التي منحها له اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية للتدريب في أستوديو غوركي على يد المخرج البارز الروسي مارك دنسكوي. ولكونه كاتباً وروائياً كثيراً ما كان يسأله رجال الإعلام عن سبب اختياره لهذة الوسيلة من وسائل التعبير، فكان جوابه واحداً ومتكرراً: إن الصورة لغة أشد تأثيراً وانتشاراً وسط الشعوب الأفريقية في ظل الأمية وعدم القدرة على الكتابة.
ويُخرج أول أفلامه (الحوذي). حمل فيلم الحوذي أولى القسمات والملامح ذات المنطلق الفكري التنويري والتحريضي لسامبين من فن الرواية إلى فن السينما. الفيلم ورغم التطبيقات الفنية والجمالية التي عمل على استعراضها وتوظيفها عثمان سامبين في مجمل البناء؛ وعلى الرغم من كثافة الرموز والدلالات البصرية والمؤثرات السمعية عبر الموسيقى التي انطوى عليها، وتعليقات النقاد إلى الدرجة التي تم تشبيهه فيها بأفلام الواقعية الجديدة؛ إلا أنه حمل في أفضل عناصره التكوينية جينات الخبرة الأدبية لسامبين، والتي تجلَّت في النفس السردي ولغة المنولوج الموحية المؤثرة، التي استخدمها للتعبير عن العالم الداخلي للحوذي. لقد انعكست فنيات السرد الروائي المكثف هنا، ولكن بتقنيات أخرى جديدة تعبر عن حالة الزواج الماثل بين الصوت والصورة في مثل هذا النوع من الأفلام التمثيلية أو الروائية غير الناطقة.
في فيلمه "فتاة سوداء" نتابع (ديوانا) امرأة سنغالية صغيرة، انتقلت من (داكار) بالسينغال إلى (أنتيب) بفرنسا لتعمل لحساب عائلة فرنسية من الأغنياء.. أملت (ديوانا) أن تستمر في وظيفتها السابقة كمربية أطفال متوقعة أن تعيش حياة مليئة بالحركة والسعادة، ولكن منذ لحظة وصولها إلى (أنتيب) تلاقي معاملة سيئة جدًا من العائلة التي تعمل لصالحهم، الذين أجبروها لكي تعمل خادمة طوال الوقت لديهم.. وفي ظل هذا الموقف الصعب وفي بلد غريب وبعد تفتت أحلامها في معيشة حياة أفضل، يتراءى لها أن الانتحار هو السبيل الوحيد للنجاة. يتحدَّث سمبين عن فكرة الفيلم، وكيف واتته قائلا: (فيلم "فتاة سوداء" يعكس واقعة حقيقية، وقعتْ أحداثها بمدينة مَرسيليا في العام 1958؛ حينها كنت رئيسا لاتحاد العمال الأفارقة، في إحدى المرات اتصل بي أحد الأصدقاء هاتفيا، وأخبرني عن موت فتاة سنغالية تعمل خادمة لإحدى الأسر الفرنسية. وبعدها، عرفت أن الأمر غير ذلك، وأن الفتاة قد أقدمت على الانتحار بسبب الحذين؛ كتبتُ عن ذلك قصة قصيرة، وحينما بدأت في العمل بالإخراج جالت براسي فكرة إخراج تلك القصة القصيرة؛ بحيث عمدتُ إلى أن تكون الحادثة قد وقعتْ بعد حصول السنغال على الاستقلال، وحيث كنتُ على قناعة كبيرة بأنَّ التركيب الخارجي للدولة قد تغيَّر، ولكن -وللحقيقة- فإنَّ كل شيء أمسى على ما كان عليه من حيث الاستغلال).
إن ميلودراما غابة طرزان وإهانة النماذج الإفريقية قد سادت على الشاشة الفضية السبعة عقود قبل أن يقدم سمبين أفلامه حيث فيها تجد موضوعات القوة المدمرة للسلطة والمال.. ومحاولة الناس بأن يحرروا أنفسهم من العقليات المسيطرة والتابعة للاستعمار، وتقديم البديل الإفريقي الحقيقي حيث تكتشف شعوب إفريقيا أنفسها وتعيد صياغة تراثها في المجتمع.. وهذا واضح في أفلامه مثل: "إكسالا" المستوحى من رواية لسمبين تحمل الاسم ذاته والذي يعالج، موضوع السلطة والسياسة والمجتمع الأفريقي، و"الحوالة" 1968 حيث يقدم هذا الفيلم قصة كفاح مريرة لرجل إفريقي بسيط؛ هو: "إبراهيم دينق"، هدفه الحصول على حوالة مالية بسيطة، جاءته من ابن أخته العامل في فرنسا.. كفاح مرير يدور في أروقة الحكومة ومصالحها، وعبر تلك المحاولات البائسة والمتكررة، يُبرز لنا سمبين الواقع السيئ للبيروقراطية الحكومية في بلاده، وتفشِّي ظاهرة الارتشاء، وانهيار القيم الأخلاقية الروحية للمجتمع الجديد في السنغال. وأفلام أخرى مثل “تاو” 1970،و "إمتيباي" 1971، و"خالا" 1974، المأخوذ عن رواية كتبها، والذي يروي رحلة الحاج عبد القادر بيي، لاستعادة عنفوانه الجنسي الذي تخلى عنه في اللحظة الحاسمة عندما أراد ابناء من زوجته الثالثة. ويُعلق سمبين على نجاح فيلم "خالا" قائلا: "أنا في كتابة الحكاية، كما في إخراج الفيلم، أُظهر أن البرجوازية في بلدان العالم الثالث هي برجوازية تابعة للتنظيم الرأسمالي، الذي يقوم بدور الخادم للإمبريالية". ثم "سيدو" 1977 الفيلم الأكثر اقترابا وحميمية من التراث الشعبي والحكائي الإفريقي.. وفي سنة 1988 أخرج شريطا طويلا مدته 90 دقيقة بعنوان (معسكر تيارواي) وهو من الإنتاج المشترك بين بلدان أفريقيا (السنغال، تونس، الجزائر) وشارك به في مهرجان فنسيا وحصل على جائزة لجنة التحكيم. وبمهرجان فيسباكو (للسينما الأفريقية) حصل على جائزة (معهد الشعب الإفريقي الأسود) ثم على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان قرطاج 1988م وجائزة منظمة الوحدة الإفريقية بنفس المهرجان، وهذا الشريط أيضا يتحدث عن مشاكل الحرب العالمية الثانية 1944 وتناحر الجيوش الأجنبية بما فيها النازية على أرض أفريقيا. عرض في مهرجان كان 2005 الفيلم الاخير لعثمان سمبين (مولادي)، العائد بعد انقطاع سينمائي مطوّل، حيث لم يقدّم، بسبب تقدمه في السن أي عمل جديد منذ فيلمه "فات ـ كيني" الذي عرض في العام 2000 تناول عثمان سمبين في فيلمه "موولادي" قضية اجتماعية شائكة تتمثل في عادة ختان البنات في دول أفريقيا السوداء. لكنه يطرحها بشكل مغاير تماما للخطاب الأيديولوجي الغربي الذي يرى في أطروحات العصرنة والحداثة سبيل الخلاص آليا من تلك العادات التي لم تعد تتماشى مع روح العصر. فالخلاص في فيلم عثمان لا يأتي من قبل الأجيال الجديدة المتفتحة على الحداثة والعصرنة، لأن أحدا منهم لا يجرؤ على وقف عادات الختان المقيتة، إلى أن تنبري لذلك سيدة عجوز تدعى "كولي غالو أردوسي"، تمنع سكان القرية من ختان ابنتها الوحيدة، وإذا بالقصة تنتشر بسرعة، فتتوافد البنات الخائفات من الختان، من مختلف قرى المنطقة، على بيت هذه السيدة العجوز، طلبا لحق الضيافة والحماية، وفقا لقاعدة قبلية تعرف في المنطقة باسم الـ"موولادي" (ومن هنا جاء عنوان الفيلم).
وبذلك يحاول عثمان بالأسلوب الحكائي الأفريقي المميز الذي يطبع كل أفلامه، أن يثبت بأن محاربة الجوانب السلبية التي تجاوزها الزمن في التقاليد المحلية لا يتأتى بالانسلاخ الكامل عنها للعيش وفقا للمعايير الغربية، بل يجب محاربة السلبي من التقاليد بالإيجابي منها. فالسيدة العجوز التي منحت الـ"موولادي" للبنات المستجيرات بها من الختان، استطاعت أن تصمد أمام بقية السكان، لأنهم بقدر ما يحترمون عادة الختان المتوارثة في التقاليد المحلية، يحترمون أكثر قاعدة الـ"موولادي" المقدّسة في أعرافهم. وكان عثمان سمبين، الذي توفي في التاسع من شهر يونيو/ حزيران 2007 عن سن تناهز 84 عاما، يقول دوما لطلابه إن الصورة أصدق من القلم لأن صاحب القلم قادر على فرض رقابة على قلمه. أما الرقابة المفروضة على الكاميرا فإن الصورة تفضحها بسهولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق